ظنّ المتفائلون (وكنت منهم) بأنه سيبذل قصارى جهده لإقامة أفضل العلاقات مع الأحزاب السياسية الأخرى بغية تحقيق هدفه. وأخذت الأنظار ترنو إلى توترات أقل وتوافق أكثر في البلاد ليأخذ التعاون مساره على غرار ما حدث في إسبانيا عام 1978 عندما تم التوافق على صياغة دستور ديمقراطي جديد. لكن يبدو بأن تفاؤلنا قد جاء في غير محله حيث شهدنا في الأمس القريب صدور قرار عن المحكمة يقضي بحظر التويتر ولم يكن هذا القرار سوى واحد من القرارات التقييدية التافهة التي دأبت حكومة أردوغان على إصدارها منذ عام 2011.
لقد أفضى القرار الذي صدر في الشهر الماضي بشأن الانترنت إلى تضييق الخناق على الحرية الفردية بحجج واهية أفصح عنها أردوغان عندما قال «ان الحكومة تتبع تلك الاحتياطات تحسباً مما قد تتعرض له من ابتزاز وما قد يجري من فجور في الاحوال التي يتم بها استخدام الانترنت والحاسوب خلافا للطريقة المناسبة وفي ظل عدم وجود نظام فعال للمراقبة سيفضي الأمر إلى انتفاء الهدف الثقافي منها الأمر الذي سيقود إلى أضرار ونتائج لا تحمد عقباها»
لا ريب بأن فرض النصح والإرشاد الأخلاقي الذي أخذت الحكومة تنهجه سيفضي حتما إلى كبح حرية التعبير والرأي وقد شهدنا تركيا وهي تسبق العديد من الدول في عدد المعتقلين من الصحفيين إضافة إلى الكثير ممن عمدت إلى صرفهم من الخدمة وقطع مصادر رزقهم.
لقد فوت أردوغان على نفسه فرصة عظيمة في المساهمة بتسطير تاريخ ديمقراطي لتركيا عندما فشل في تحقيق السلام الفكري الذي دعا إليه من أجل تحقيق الديمقراطية والتحالف مع الحضارات والدور المثالي لتركيا عبر التزاوج بين الأعراف الإسلامية والقيم الديمقراطية.
إن الخطاب الفاشستي الفعلي الذي تبناه أردوغان منذ عام 2011 ودعا إليه قد ظهر بشكل جلي وواضح عبر تعاطيه مع أحداث غيزي بارك في الصيف الماضي عندما حاول معارضون منع إزالة حديقة في اسطنبول جرى التخطيط لتحويلها إلى مركز تسوق علما بأن اسطنبول تزخر بمثل تلك المراكز.
لقد شهدت حكومة أردوغان معارضة واسعة النطاق للمرة الأولى منذ تسلمها مقاليد السلطة وشاهد العالم على الهواء مباشرة رجال الشرطة وأنصار أردوغان يقمعون المظاهرات بالغاز المسيل للدموع وبالاستخدام المفرط للقوة الأمر الذي أفضى إلى مقتل العديد من المدنيين ورجال الشرطة وكانت آخر تلك الاحتجاجات قد حدثت قبل بضعة أيام.
يلقي أردوغان باللائمة عن تلك الأحداث على جماعات ضغط دولية لها مصالح في ما يجري دون أن يأخذ باعتباره مطالب المحتجين المتعلقة بإرساء الحقوق الديمقراطية التحررية والليبرالية. لكننا نرى في تجاهل الحكومات مطالب وآراء الشعوب وطلبها منهم الانصياع لأوامرها وتوجيهاتها نوعاً من الفاشستية الذميمة.
في شهر كانون أول عام 2013، ظهرت تسجيلات عديدة لمحادثات هاتفية أجراها وزراء في حكومة العدالة والتنمية وكشفت عن فضائح الفساد في التاريخ التركي، لكن عندما كشف بتاريخ 24 شباط بأن أردوغان قد طلب من ابنه في مكالمة هاتفية إخفاء الأموال التي كانت في منزلهم ونقلها إلى مكان آخر، قال رئيس الحكومة بأن «تلك التسجيلات ملفقة وعارية عن الصحة» واستطرد القول بأنه «بذات التكنولوجيا يمكنه أن يجعل رجاله يحضرون تسجيلا إجراميا مشابها خلال اسبوع أو عشرة أيام». لكن الواقع يؤكد بأنه ليست ثمة حقائق علمية تؤكد تلفيق تلك التسجيلات ولا نزال ننتظر لنعرف الأسلوب الذي يمكن أن يتم به تحضير هذا النوع من التسجيل.
وفي الحين الذي تظهر به تسجيلات جديدة تفصح عن مستوى الفساد والبيروقراطية في الحكومة التركية يوما بعد يوم اتخذ أردوغان عدوا جديدا هو حركة غولن التي يتهمها بحياكة مؤامرة ضده وقيامها بترسيخ قوتها ضمن إدارات الشرطة والقضاء لذلك نجده يعمد إلى تعيين المئات من أنصاره في أقسام الشرطة والمراكز البيروقراطية منذ ظهور أول تسجيل.
بذات الزخم الذي كان عليه الشعب التركي عندما أعيد انتخاب أردوغان قبل ثلاث سنوات نرى اليوم أن جماهير الشعب المستنيرة التي لا تريد سوى الحرية للجميع تنهج إلى استمرار احتجاجات غيزي بروحها الليبرالية الديمقراطية.
لقد ساد نوع من عدم الثقة بما يجري في أقسام الشرطة ومكاتب الحكومة، والنظام القضائي وبالمستثمرين في التحالفات الليبرالية الجديدة التي تسعى إلى سرقة لقمة العيش من البسطاء.
وبعد تلك الفضائح، بات لدى الشعب شكوكه في أي حزب سياسي يتشدق بتحقيق الديمقراطية وتطبيقها إلى جانب إرساء الليبرالية ضمن مسار اجتماعي وسياسي وأخلاقي للمجتمع، كما كان يفعل أردوغان إبان حملته الانتخابية.