هكذا يحيطونك بكل الموبقات ويسورون عقلك ولسانك بالمراصد الحرام والفعل الشائن والمشهد الدامي وكأن قابيل يقتل أخاه هابيل للحظة والتو مع الفارق بأن الفرصة في ذاك الزمن الموغل في القدم كانت مهيأة لكي يحزن القاتل على من قتل ولكي يأتي الغراب ليقدم صيغة مواراة ودفن الجسد الميت. الآن صار الشقيق يقيم الأفراح والليالي الملاح احتفالاً بانتصار الحياة على الموت وباجتياح الهمجية لمصادر العقل وحقول القمح وكروم الزيتون,الآن لا توجد فرصة لجمع الأشلاء ودفن الموتى وقراءة الفاتحة بالجملة على أرواحهم, الآن صارت الفرص كلها محجوزة للقتل المجاني والذبح السهل.
واكتمل المشهد في العراق يدمرون الأضرحة ليس مآذن الامامين العسكريين فحسب بل مسجد طلحة بن عبيد الله وكأن المعركة هناك هي بين مواقع احتضنت رفاة أولئك العظماء ممن جاهدوا وفتحوا وبنوا ونشروا العدل وملؤوا الدنيا طهراً وفكراً. وقد دنت الآن لحظة محاسبتهم على كل ما فعلوه ولا بد أن يموتوا من جديد, بالأمس ماتت أجسادهم واليوم يجب أن تموت قيمهم ومبادئهم,لم يتبق الآن من أولويات المعارك سوى أن نعيد قتل الشهداء وندمر كل حجر ضمهم وكل مئذنة حملت تكبيرهم وكل آية قرآنية خضراء لفت أضرحتهم.
والمشهد يكتمل هنا في لبنان معارك لا يعرف منابعها إلا الشيطان ومن خلالها تستمر رحلة العبث في لبنان الشقيق,هناك منظمات تخلقت على عجل استترت بالدين ثم أطلقت وظيفتها وسمومها,والحرب ما زالت مستعرة والموت يأخذ في طريقه الفقراء والأبرياء والهاربين من الموت بالجوع ليصطادهم الموت بالرصاص.
ويطرحون في الداخل اللبناني منهج الاغتيال بمنسوب يتردد الشيطان عن قبوله لما فيه من بشاعة واستهداف رخيص وتوظيف أرخص,والوظيفة الأولى واضحة تماماً إنهم ينظمون الوقائع في لبنان ويغتالون الشخصيات الوطنية هناك ويطلقون سمومهم وحقدهم في ذات اللحظة على سورية ,التهمة تتسابق مع الجريمة والمعنى مكشوف والقصد معروف,لكن الملمح المذهل هو كيف صار لبنان العربي الحضاري والمثقف الديمقراطي والانساني الجميل والقوي كيف صار لبنان هذا موئلاً لجرائم من هذا المستوى وموعداً لزهق الروح من أجل أن نتهم بلداً حاضناً هو مصدر الأمان للبنان وهو ملجأ الكرامة والحياة النظيفة للبنان حينما يدلهم الخطب وتعصف الظروف وتخترق الإرادات المحمومة هذا البلد الطيب كيف تطلق التهمة أولاً على سورية ثم يأتي التطبيق من خلال معارك مخيم نهر البارد واغتيال وليد عيدو وابنه ومرافقيه....
لا نحتسب هنا المنسوب السياسي أو طبيعة المخطط المطلوب أو جوهر المشروع الذي كلف فيه ومن خلاله لبنان لكننا نبقى عند هول الجريمة وبشاعة الاختيار وهمجية الاقتتال والاغتيال,ألا يدل ذلك على شيء غريب هو فوق الواقع و أبعد من التجاذبات السياسية والمصالح الحزبية?!!
ثم ألا تكون غرابة الغرابة حينما تهون هذه الجرائم على قوى سياسية حزبية في الداخل اللبناني ليصبح الأقوى منها والأهم منها هو اتهام سورية?
هناك من لم يذرف دمعة على مأساة لبنان لأنه مشغول ومنشغل بتلفيق الحكم وتوجيه التهمة الى سورية مباشرة,هذا هو الاستدلال البسيط والأولي على طبيعة الحدث المأساوي في لبنان وطبيعة الدور المناط ببعض أهله وقواه السياسية.
ويكتمل المشهد على قاعدة مصطلحات ثلاثة هي الاقتتال والموت المجاني ونشوة الانتصار الحرام وهاهي غزة تقدم المشهد وتحتضن النموذج المخزي لقد فجعنا جميعاً بعد أن فوجئنا جميعاً.
إذ لا يعقل أن تكون كمية الحقد وكمية الموت على هذا المستوى وعلى هذا النحو في بلد اخترناه للنضال مجدناه وغذيناه رهنا أنفسنا من أجل قدسية قضيته وقلنا ونحن نرفع الرأس :هذه هي الأمة العربية لا تموت ولا تهون تجوع ولا تركع وقلنا هذا هو البديل عن الصمت العربي المريب ,ومواقف الأنظمة السياسية العربية وقلنا هذا هو الاسلام بجوهره جهاد في سبيل الله لتحرير الأرض واستعادة الحق ونشر العدل وتفجير الطاقة الحضارية الانسانية وادارة مشروع الحياة بكفاءة وعي الضمير وقدرة الفلسطيني على الاستشهاد اليوم ثبت أننا كنا نغرق في الوهم وقدمت حركتا حماس وفتح ما يكفي لكي نسحب تلك الجذوة ونعتذر من وجداننا على أننا كنا واهمين,كنا مغفلين, كنا (غشماء) كان كل شيء يترتب في نسق الظل هناك حيث السلطة المغرية والمال المتكاثر الى حد زيارة المقابر هناك حيث الذوات الفارغة واليد المخدرة بحلم القوة,والرصاصة المفعمة بالجنون وحرية أن تختار من تشاء لكي تزهق روحه وتوقف زحف عمره.
لم نكن نعلم أن الثوار وأصحاب المبادئ يحتربون ويبقى في الجزء الآخر من المشهد تلك الأفعى وهي قابعة في جحرها ترقب بفرح مجنون,لا تصدق ما ترى ولا تفهم حتى بمعاييرها المسمومة بين إخوة النضال والمشوار.
إنها إسرائىل وقد اختارت أن تخلي الساحة وأن تترك الفرصة أمام عبيد السلطة والمال أن يقطع أحدهم أوصال الآخر و أن يحتفل أحدهم ويرفع نخب الطلى على بقايا أشلاء طفل أو شيخ جليل أو أطلال قضية سرقتها العاصفة وطوحت بها الريح المجنونة الى حيث الفناء والى حيث وباء الدم وشهوة سفك الدم.
هذا هو المشهد فيه فصل زمني واحد ولكن الجديد في هذه المسرحية هو تعدد الأمكنة من العراق الى فلسطين الى لبنان,وهذه المرة , المسرحية هي الحياة والوقائع والأمكنة هي عواصم تاريخية وميادين شهد لها الزمان وشهد عليها الزمان.
ولقد أخذنا السياق العاطفي الى هذا الخيار من الحزن والى هذا المستوى من المأساة,حتى لكأن المطلوب هو أن تغشى أبصارنا وتعمى بصائرنا ثم لا يكون لنا من وظيفة أو موقف إلا أن نقع في الصدمة ونفقد الذاكرة ونتخلى عن القرار نستعيض عن ذلك كله بموكب جنازة نشيع به قضايانا الى مثواها الأخير ثم نطلق أنات وآهات ومواويل مجروحة بأصوات مبحوحة نقول بها لأنفسنا وللعالم لا تصدقوا حكاية ما يجري.
إننا نعيش المأساة,نحترق بالنار بارادتنا وأنوفنا تزكمها رائحة الدم الحرام,ها نحن نبكي,ها نحن نرثي ومن قال إننا غير متأثرين إننا نتابع مثل كل خلق الله الفضائيات العربية والعالمية وهي تنقل بالصوت والصورة مشاهد التراجيديا بدقة وعناية وتفاصيلية ثم تقدم الصورة جاهزة للفرجة وتسديد صبوات العقل الأسير وتقديم عنصر الفرجة والإدهاش لقطعان الأجيال المتسيبة لكي يتأكد لهم أن ما اختاروه من شذوذ في كل حارات الداخل العربي هو ذاته الذي يجري الآن على شكل موت وقتل وتدمير في العراق وفلسطين ولبنان.
إن العرب متفرجون خبراء ومن الطراز الأول والاستثنائي ولديهم في منصاتهم الرسمية والشعبية ما يكفي من مجالس العزاء ومن ردود الفعل المتثاقلة والمتثائبة ثم ألا يكفي أنهم يتابعون بدون توقف مشهد الموت ومجرى نهر الدم الحزين.
إنهم متفرجون وقد حصنوا أعينهم بألا تنام وحصنوا ضمائرهم بألا تستيقظ وتنفجر,ويبقى السؤالان المريران أحدهما يقول الى أي مدى كانت هذه الاختراقات الجشعة من الخارج تلتقي باستجابات وقحة من الداخل العربي.
لقد مررنا بألف منعطف في تاريخنا وتعرضنا للتآمر وتكالبت علينا الظروف لكننا في أسوأ الحالات كنا نلتقط عوامل النهضة والصحوة من الركام ومن تحت الرماد وكان ذلك يعفينا من أن نقدم وجودنا للاحتقار والفناء وكان من شأن ذلك أنه يوصل رسالة للمستعمر الحاقد بأن الجسد يقتل ولكن الروح تستعصي على ذلك وبأنه كلما حلت بنا نائبة نهضت جموع وقوى تعيد للحياة أصولها وللمشتركات معناها وباستمرار كانت الصحوة هي التي تلي الكبوة.
وأما السؤال الثاني المر فهو الى أي مدى يمكن أن نتحدث عن وجع عن ألم,عن احساس بالحرج على الأقل والانسان العربي يقتل الانسان العربي,يحشره,يصطاده في الزاوية الفارغة المغلقة ثم يحول جسده الى دريئة لا ينجو منها جزء من هذا الجسد المسكين.
كيف يكون عربياً وكيف يكون مسلماً,وكيف يكون مسيحياً,بل كيف يكون بشراً ذاك الذي يغتال بدم بارد وينتقم من الصديقين والصالحين والشهداء,ويحترم مع صفوه وذاته في أرض البطولات وفي المهد الحرام.
سؤال يخرج عن كونه ذا طبيعة سياسية أو اجتماعية,الآن نحن أمام مقومات المشهد الشاذ وهو يحرق الأخضر واليابس ونعمم سمعة رديئة صدئة مفادها أن العرب لا يتقنون سوى الموت والتدمير وقد يمرون بصورة عابرة في لحظات التصدي للأجنبي والدخول في معارك تحرير الأرض والانسان واستعادة الحق المغتصب والسليب الآن.
وقد سقط النظام السياسي والعربي وفشلت الأحزاب والنخب السياسية والثقافية,الآن علينا أن ندرك بأننا نستحق كل ذلك لأننا كذبنا ودجلنا ومثلنا وصار نتاجنا هذا الذي نراه في العراق وفلسطين ولبنان.