ثم نقلتها إلى مفردات الطب بمراجعه ووصفاته وأدبياته, حتى كادت تنال الاستخدام الحصري في اختصاصه, ونحن إن غسلنا اللغة مما يحملها إياه التداول والاستخدام المتواتر, سنجد فيها معاني تعيدها إلى براءتها الأولى, فالسرور ينتشر بعدوى الضحك, والحب ينتشر بعدوى الصدق, والسكينة تنتقل إلى القلب بعدوى الطبيعة الخلابة, أما الموهبة فهي الأعظم في انتشارها وتناميها حين تجد بذرتها في مناخ يساعدها على النمو, وتكثر فيه المواهب الكبيرة تنقل إليها هواجسها وعدواها..
مازال زمن زهو الإبداع الروسي الذي تحايل فيه تولستوي وتورغنييف وديستويفسكي, وتشيخوف والكسندر كوبرين ماثلاً في الذاكرة, فعبر عدوى التنافس والتلامس على حدود الإبداع علّموا شعوب الأرض كتابة الرواية العظيمة, وتركوا عطر ماكتبوا مستعصياً على البدد, في زحمة الفنون الإنسانية.. ولماذا نذهب بعيداً? زمن الثقافة العربية في أوج تألقها في الستينيات , عرف نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف إدريس, وصلاح عبد الصبور, وأحمد عبد المعطي حجازي, وأمل دنقل وصلاح جاهين, وغيرهم كثير من أصحاب المواهب العظيمة يتحاورون ويختلفون, ويتجادلون, ويتفقون لكن لا أحد منهم كان يخشى موهبة الآخر, أويهشمها ويدينها, وينصرف عن إبداعه إلى تهشيم موهبة الآخر.
حين كنت أجري لقاءات إذاعية مع مبدعينا في الرواية أوالشعر أو حتى الفن التشكيلي, والتلحين كنت أطرح سؤالاً: مع من تلتقي من أعلام الإبداع? هل تربطك صداقة خاصة مع بعض أقرانك? هل لديك لقاءات منتظمة مع بعضهم? هل تتحاورون بشكل قصدي? هل تهدي إبداعك لزميل تراه أهم منك لتسمع رأيه بما أبدعت? وأقول بصدق قد أؤاخذ عليه, كان انطباعي بعد عقود من الزمن أن أغلبية مبدعينا منقطعون إلى ذاتهم, وأكثرهم يلزمون حياة لاتماس فيها, اللّهم إلا في المؤسسات الرسمية, و اللقاءات المفروضة, لذلك خير من يتحدث عن إبداع المبدع هوالمبدع ذاته لا مبدع آخر ( أهي قوانين الشرنقة أم إن ظروفنا فرضت هذا الواقع, ونقلته من واحد إلى آخر, بحكم العدوى مرة أخرى)?.
راهناً, تتزعزع هذه الانطباعات شيئاً فشيئاً,ففي أجواء سورية الثقافية اليوم نسيم خفي بدأ ينبعث من جيل مبدع, يعاكس كل الآراء المتعجلة, والذي ربما لم تلمحه مجسات الإعلام بعد!! إنه الجيل الذي تجاوز زمن أن يحفر الموهوب طريقه في الصخر الصلد, وحيداً, ويصبح بذاته تياراً فنياً كما كان أبو خليل القباني, والرعيل الذي تلاه من الفنانين في كل ألوان الفنون.
اليوم يدهشنا هذا العدد الكبير من الشبان الذين تنتقل بينهم عدوى الإصرار على العمل في إنهاض المسرح في فرقهم الصغيرة, وعلى التجريب في الرقص وفرقه وأشكاله التعبيرية المختلفة, وعلى التجريب في كتابة السيناريو ( وليس لدينا معهد يعلم هذا الفن المعاصر) وفي الإخراج (وليس لدينا أكاديمية تعنى بهذا الاختصاص) وفي التمثيل (وهو مايحسب للمعهد العالي للفنون المسرحية لأنه أصبح منبعاً للنجوم المطلوبين في الوطن العربي), جيل لم يتجاوز عمر أبنائه منتصف العشرينيات, يستوقف المتأمل أمام حماسته وثقافته وإبداعه, وآرائه الناقدة, ومبادراته التي تجاوزت عقلياتنا وأساليبنا! والمصادفة وحدها ساقتني إلى الإطلالة على عالمهم ومشاغلهم., فإذا بهم يلتقون ويتحاورون ويختلفون, ويساندون بعضهم, وتقودهم أحلام كبيرة, لا توقفها بعض المعوقات والمنغصات.. وقطعاً لن يمر زمن طويل حتى يقطف البلد مواسم هؤلاء المبدعين.. ولن نرى مبدعاً هنا.. ومبدعاً هناك, تنقطع الصلة بينهما, وترمي المصادفة أحدهما تحت الأضواء وتنسى الآخر..
من عرفت من هؤلاء الشبان: سواء في كتابة الشعر, أو القصة, أو المسرح أو السيناريو, أو التصميم الفني أو التصوير أو الإخراج, ابتدع طريقة للتعبير, وطريقة للاستمرار,تختلف عن الماضي الذي كان فيه كل مبدع يحتاج إلى شهادة من أستاذه.. وإن قدم السيد الرئيس أوسمة لأعلام كبار في بلدنا اعترافاً بفضلهم على ثقافتنا وتكوين أجيالنا, فإن أعلاماً قادمين, سيشكلون عصراً ذهبياً مقبلاً علينا, عاش في زمن الأساتذة وأتيح له أن ينعم بحريته, وأن يطلق إبداعه المتنوع, وهويعلم أنه ينهض بمشروع ثقافي جمالي, هو أفضل مالدينا في زمن تدمير الثقافات الأصيلة, واتهامات غير متبصرة بأننا فقدنا أجيالنا, الذين تمردوا علينا فباتوا دون هوية.. ودون حلم ودون اتجاه.
لا يخدمني أن أذكر أسماء بعض هؤلاء الشبان, على طريقة تناول الصحافة أيام زمان, لبعض الأسماء وإشارة الصحفي إلى الموهوب بالقول: انتبهوا فلان قادم إليكم.. لأن خير ما تعلمته من هؤلاء هو تشكلهم كالأواني المستطرقة? ووحدة مشروعهم الذي لا يكملونه إلا جماعة, ولا يتحدثون عنه إلا جماعة, ولا يتقدمون به خطوة إلا وهم يشبعونه حواراً وجدلاً..
أليس الغد واعداً, ونحن ننتظر هؤلاء المبدعين ليعتلوا المنابر, دون أن ينتظروا منا تحضيرها? ولن نقول انتبهوا إليهم بل انتظروا منهم الكثير.