تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


كونديـــــــرا: الســخريــــة هــــي الاختـــــراع العظيـــــم لــــــروح العصـــــر الحـــديث

فضاءات ثقافية
الأحد 3-1-2010م
في عام 1929، وفي مدينة برنو التشيكية ولد الروائي ميلان كونديرا.. عشق الموسيقا منذ صغره ودرسها إذ كان والده عازف بيانو بارزا. في الجامعة درس علم الجمال وتاريخ الأدب،

والتحق بكلية السينما في براغ، وحين منعت السلطات في بلاده كتبه غادر إلى المنفى، واستقر في فرنسا مع زوجه منذ عام 1975.. هناك، بعيداً عن المناخ الخانق للنظام الشمولي كتب رواياته التي منحته الشهرة والمجد، ومنها «الحياة هي في مكان آخر»، وتحكي قصة شاعر من جيل سبعينيات القرن الماضي، تمسخه الإيديولوجيا فيشي بحبيبته للسلطات الأمنية، ويتسبب بسجنها. أما «كتاب الضحك والنسيان» فهي رواية من مقاطع متفرقة ينقل كل منها صورة عن الوضع المأساوي والمضحك في آن، داخل بلده إبان ذلك الحكم.. في رواية «خفة الكائن التي لا تحتمل» يقدم لنا أستاذاً جامعياً عالماً يُطرد من وظيفته لأنه غير منتم للحزب الحاكم، ومغضوب عليه من قبل ذلك الحزب، فيضطر للعمل منظفاً لزجاج النوافذ في البيوت والمكاتب، أو يجبر على ذلك. أما في رواية «الخلود» فيتألق كونديرا من خلال تقنية متميزة كما في رواياته كلها، ولكن بطريقة مختلفة في هذه المرة، حيث يمتزج الواقعي بالخيالي داخل النص الروائي، وتكون الشخصية المتخيلة «آكنس» حقيقية في ما بعد، عندما يلتقيها الروائي كونديرا الذي هو الراوي الأول أيضاً داخل الرواية.‏

في روايات كونديرا هناك مسحة من السخرية دائماً، وهو يتفق مع اكتافيو باث ـ الشاعر المكسيكي ـ في أن السخرية هي الاختراع العظيم لروح العصر الحديث.وتتجلى نبرة السخرية بأصفى أشكالها في مجموعته القصصية «غراميات مرحة»، وفضلاً عن ذلك فإن كونديرا ينتمي بعمق إلى تقاليد الحياة الغربية «الأوروبية»، ولاسيما إلى الإرث الليبرالي المتحدر من عصر الأنوار، حيث التركيز على الفرد وحريته وهويته.. يقول؛ «ماذا نعني بالفـرد؟ أين تكمن هويتـه؟.. إن الروايات كافة تبحث للإجابة عن هذه التساؤلات». ولكونديرا فلسفته، لا في رؤية الواقع فحسب، وإنما في نظرته للرواية أيضاً. فالرواية كما يفهمها فن مهمته الوجودية هي اكتشاف الواقع، حيث أن الضروري في الرواية هو فقط ما يمكن للرواية أن تقوله، مثلما يؤكد.‏

بالمقابل. ورث كونديرا تقاليد الرواية الأوروبية ولاسيما تلك التي ترسخت في بلاده «التشيك»، وكان كافكا نصب عينيه عندما لخص هذا الأخير المعضلة الإنسانية وجوداً وماهية ومصيراً في بضع روايات خالدة أبرزها «المسخ والقصر والمحاكمة وأمريكا».. وعن عالم كافكا يقول كونديرا: «إذا كنت أتمسك بتراث كافكا بهذه الحماسة، وإن كنت أدافع عنه كأنه تراثي الشخصي فليس لأني أعتقد بفائدة تقليد ما لا يُقلد، وإعادة اكتشاف الكافكوية ، لكن لأنه مثال رائع للاستقلالية الراديكالية للرواية للشعر الذي هو رواية ،سمحت هذه الاستقلالية لفرانز كافكا أن يتحدث عن شرطنا الإنساني، كما ظهر في قرننا ، بطريقة لا تستطيع أي فكرة اجتماعية أو سياسية أن تحدثنا بمثلها».‏

يؤمن كونديرا بالرواية فناً أدبياً تدور حول لغز الـ «أنا» ويستشرف آفاق الواقع، ويقول ما لا تقدر أن تقوله الأنواع الأدبية الأخرى.. كذلك يؤمن بنفسه روائياً يقف بقوة على مسافة من التاريخ، ويرصد حركة العالم الذي يبعث على السخرية والأسى، وكما كان د . هـ . لورنس ـ الروائي الإنكليزي ـ يرى في الروائي كائناً أرقى من المهندس والطبيب والسياسي والقديس، فإن كونديرا كان يرى في ذاته الروائية شيئاً مميزاً جداً.. يقول:‏

«قد ثرت ذات يوم حينما خضت في بعض الحوارات الشاذة. ـ هل أنت شيوعي سيد كونديرا ؟. ـ لا .. أنا روائي. ـ هل أنت منشق؟. ـ لا.. أنا روائي. ـ أتساند اليمين أم اليسار؟. ـ لا هذا ولا ذاك.. أنا روائي.».‏

يرمي كونديرا إلى إدهاش قارئه، لاجئاً إلى أكثر الطرق والتقنيات مراوغة وإثارة ومكراً في الكتابة الروائية، والتي من خلالها يحصل على كشوفاته اللامتوقعة.‏

في روايات كونديرا تغدو الـ «أنا» مركزاً، فرواياته معنية بالذات الإنسانية، والكيفية التي بها ترى أعماقها وتتفهم نفسها لكي «تكون.. في العالم». وإذا كانت الرواية كما يعبر عنها كونديرا هي ( صيغة نثر عظيمة يقوم المؤلف عن طريق ذوات تجريبية «شخصيات» باستكشاف بعض ثيمات الوجود الرائعة ) فإن مغامرة هذه الذوات التجريبية في العالم هي ثيمة الثيمات. وما يعني الروائي، ها هنا، هو ملاحقة مسارات المغامرة تلك بمنظور ولغة خاصين، حيث تتجلى قدرة وموهبة وبراعة الروائي واختلافه عن الروائيين الآخرين، ناهيك عن اختلاف الرواية عن بقية الأنواع الأدبية.‏

وكونديرا، في الغالب، يحاول الوصول إلى ما يريد فهمه أو اكتشافه عن طريق آخر غير الطرق التي ألفناها، واعياً أن على الروائي أن يرسم ( خريطة الوجود باكتشاف هذه الإمكانية الإنسانية أو تلك ). ولأن العملية تنطوي على رؤى وتصاميم مسبقة فإن هدف الروائي هو المضي في الرحلة حتى نهايتها، فهو لا يريد أن يكون في موقع الإله الذي يعرف قبلياً أي شيء وكل شيء، بل أن يكتفي بموقع الفنان الذي يداهم بوساطة اللغة والرؤية الأمداء اللانهائية من المجهول القابع بتحد أمامه.. يقول كونديرا ( عندما غادر الإله عرشه ببطء من حيث حكم الكون ونظم قوانينه، وفرق بين الخير والشر، ومنح كل شيء معنى، انطلق دون كيشوت من بيته إلى عالم لم يعد قادراً على معرفته. في غياب الحكم الأعلى، بدا العالم فجأة، في غموضه المخيف، وانقسمت الحقيقة المطلقة الواحدة إلى آلاف الحقائق النسبية التي يتقاسمها الناس.. هكذا ولد العصر الحديث، ومعه الرواية، صورة ذلك العالم ونموذجه ).‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية