جورج برناردشو
إن الخوف من تقدم العمر إنما هو إحساس المرء بأنه لم يعد قادراً على أن يحيا حياة منتجة، ما يجعله يشعر بأنه أصبح فاشلاً في تحقيق ذاته وإنجاز حياته وأداء رسالته.
إنه اعتراف الإنسان بأنه أضاع حياته سدى أما الاعتراف الأشد مرارة فهو إحساسه بأنه سيموت دون أن يكون قد عاش حقاً، بل وكأنه لم يولد أصلاً.
فإذا كان هذا الشعور ينتاب الإنسان العادي، فيا ترى كيف هو الأمر بالنسبة لرجال الأدب والفن والعلم، هل تقدُّم العمر بهم يدفعهم للصراخ: لقد ضعفت الذاكرة ووهنت قوانا الذهنية ولم يعد لدينا رغبة في مواصلة البحث والحياة؟.
نبدأ بالرسام الياباني الشهير (هوكوساي) الذي عبَّر عن رأيه بهذا الموضوع قائلاً: «كان لدي منذ نعومة أظافري ولعٌ شديد برسم الأشياء. وحينما بلغت الخمسين من عمري كنتُ قد أصدرتُ عدداً هائلاً من الرسوم. ولكن، كل ما أنتجته قبل سن السبعين ليس جديراً بالاعتبار، ومن المؤكد أنني حينما أصل إلى الثمانين فسأكون قد حققتُ المزيد من التقدم، وأما حينما أبلغ التسعين فقد أرغب بالنفاذ إلى سر الأشياء. وإذا قُدِّر لي أن أصل إلى سن المئة أكون بلغت مرحلة الإعجاز، أما في سن ما بعد المئة فإن كل ما يخطُّه قلمي حتى ولو مجرد نقطة لن يكون إلا مخلوقاً حقيقياً عامراً بالحياة».
وها هو الفنان (مايكل أنجلو) يحث الخطا إلى مرسمه في ختام حياته. رغم أن الثلوج كانت قد غطَّت شوارع المدينة، ليجيب عندما سُئل عن ذلك: «إنني ذاهب إلى المدرسة، لا بدَّ لي من أن أحاول تعلُم شيء قبل أن يفوت الأوان».
أيضاً، هناك الكثير من الفنانين (سيزان) (بيكاسو) (ماتيس) وغيرهم، قدَّموا أعمالاً فنية رائعة في مرحلة متأخرة من حياتهم، وكانت جميعها تكشف عن السكينة والهدوء، وهو ما جعلهم ينظرون إلى تلك الأعمال كأفضل ما قدموه في مراحل حياتهم.
من هنا لم يكن من قبيل الصدفة أن يكتب الفيلسوف الألماني المشهور (كانط) أجمل كتبه (نقد مملكة الحكم) وهو في سن السادسة والستين وأن يقدم لنا المفكر الفرنسي (برجسون) درته الثمينة (منبع الأخلاق والدين) في سن الثالثة والسبعين. ليبدأ المفكر الإنكليزي (ألفرد نورث) حياته الفلسفية بعد بلوغه سن التقاعد في الواحدة والستين.
وننتقل إلى الفيلسوف الفرنسي (هنري بيرجسون) الذي كان يمضي أوقاته في القراءة إلى أن تقدم به العمر وتجاوز عامه الثمانين فضعف بصره دون أن تضعف بصيرته ما جعله يرد على من طلبوا منه أن يستريح، صارخاً: «كأنكم تريدون لي الموت. لقد أصبحت سجيناً في بيتي فلا تحبسوا عقلي. فقد يشيخ الجسد ويضعف البصر، أما العقل فيبقى حياً متّقداً، باحثاً عن المعرفة. فلا تحرموني من لذة البحث. اقرؤوا أنتم عليّ حتى أشعر أنني ما زلت أعيش شبابكم بفكري وقلبي».
فإذا كان هذا الفيلسوف قد أراد شباب عقله الدائم فإن الفيلسوف الإنكليزي الساخر (برتراند رَسل) قد صارع الموت بالحياة ليستمر حتى آخر لحظات حياته شاباً متوثباً يتمتع بكامل قواه الجسمية والعقلية وهذا ما دفع إحدى الصحف الإنكليزية لأن تكتب حين وفاته: مات بالأمس شاب إنكليزي شارف على الثامنة والتسعين من عمره.
أما في مجال الشعر والأدب، فعلينا أن نعلم أن (فولتير) كتب روايته الشهيرة (كانديد) في الخامسة والستين من عمره. بينما كتب (فيكتور هيجو) أجمل قصائده في مرحلة متأخرة من حياته. وكذلك (غوته) شاعر الألمان الشهير الذي قدمت لنا شيخوخته النهاية الرائعة للجزء الثاني من (فاوست). إضافة إلى أن الكاتب الإنكليزي (سومرست موم) قد وجد متعته في الشيخوخة ليكتب بعد أن تجاوز السبعين أحسن مؤلفاته وبرؤية جديدة جعلت عينيه الذابلتين ثاقبتي الحكمة.
بالتأكيد.. فإننا وإن أردنا الاسترسال في تعداد أسماء عباقرة الذين قدَّموا للبشرية أعظم إنتاجهم في مرحلة متأخرة من العمر، فسيطول التعداد. وحسبنا أن الشواهد كثيرة، وعلى رأي علماء النفس بأن من يمتنع عن الحياة والإبداع هو من فقد مبررات وجوده.
أخيراً: يكفينا أن نرجع إلى تاريخ البشرية لنتحقَّق من صدق ما قاله (شيشرون) بأن جلائل الأعمال لم تكن في يومٍ من الأيام وليدة القوة الجسمية أو الرشاقة البدنية. بل كانت وليدة الخبرة الطويلة والحكمة الرزينة. وكل هذه مزايا لا تأتي إلا مع تقدم العمر.