ذلك أن الواقع أكثر تعقيداً، فالذي يسمى اليوم عولمة جعل الإنسان يعيش متشظياًمابين آفاقها، وبين واقعه المُرتبك والمختنق والمُعقد والمتناقض والمنقاد بطغيانها وأدواتها وسياساتها والقائمين على بثِّ مخططاتهم عبر فضاءاتها.
هذا مابات عليه حال الإنسان عموماً والعربي خصوصاً. أيضاً، حال المثقف الذي قفزإلى عصر العولمة دون وعيٍ يبلور رؤيته وثقافته وحكمته وعقليته، بل ووظيفته التي هي الارتقاء بالمجتمع الذي يعيش فيه ويغرق بتناقضاته ومعاناته وفوضى هوتضخم هواجسه وطموحاته.
نعم، هذا مابات عليه حاله، في ظلِّ الفوضى السياسية التي كانت ومازالت تحيطُ بمنطقته وتؤثر على تفكيره و ثقافته، وإلى أن بات متخبطاً مابين واجبه ودوره.. أناهُ وهواه.. وظيفته وإغراءات العالم الذي تمكن منه بعد أن بثّ سموم نواياه حتى في هواه.
إنها التبعية العمياء، والانسياق وراء مايجعل أفكاره، إما عمودية متصلبة لاتقبل الحوار مع الآخر، وإما ذاتية يطلقها دون تفكيرٍ إلا بما تمليهِ عليه مصالحه وآراؤه التي لايمكن أن تتطور.. أيضاً، وهو مانراه اليوم، كثيراً مايتحول إلى بوقٍ لمؤسساتٍ أو منظمات أو حكوماتٍ ذات مصالح وأهداف عدوانية، أو حتى منغلقاً إلا على معتقداته التي تجعله يرفضُ ويكفِّر، أصحاب العقول الواعية والتنويرية..
حتماً، هو أمر في غاية الخطورة. ذلك أن هؤلاء لا يؤمنون بالمثقف الحقيقي الذي يملك حساسية عالية تجاه حياته ومجتمعه وقضاياه الأساسية والمصيرية، والذي يرى بأن ثقافته باتت مرفوضة ومستهدفة من قِبل الذين يسعون لإفشال كل مايقوم به للنهوض بمجتمعٍ يتفاعل ويتطور وينهض النهضة التي تحتاجها كل أمة واعية وراقية وعقلانية.
من هنا، يجب على المثقف أن يسعى ومن خلال العديد من المؤسسات التي يعنيها وتعنيه، والمنوط بها مسؤولية الأخذ بيده ومساعدته وتبنّيه. يجب عليه العمل جاهداً لاتخاذ قرارات بنَّاءة يرسم من خلالها ملامح مستقبلٍ تحكمه العقلانية والمنطقية، وتسود بين أفراده الحكمة والتعقل والأفكار السامية والإنسانية.
يجب أن يعمل على إرساءِ التوازن مابين القول والفعل، من أجل تخليص مجتمعه من إرهاصاته وتناقضاته.. من انخراط أفراده في أفكارٍ هدامة تعوق تطوره وتزيد من تدهوره.. يجب عليه، التخفيف ماأمكن من العواصف الهوجاء التي تحيط بوطنه وتدمره وسواء كانت داخلية أو خارجية، وعبر التصدي لكلّ المحاولات الساعية لطمس ثقافته وكسر إرادته وتغييب عقله وعقلنته وإبادة حضارته.. ببساطة، عليه النهوض بمجتمعه وانتشاله من مستنقعات الجهل والفساد والتخلف والتبعية الثقافية.
إنه مانحتاجه، وخصوصاً في هذه الفترة القاتمة في سوداويتها.. الوصول إلى حياة تحكمنا بوعيها ورٌقيها وعقلانيتها. الوصول إلى ذلك من خلال مثقفٍ يعمل على تجديد الوسائل والأدوات المعرفية، وبعد تمكينه من دوره الذي يعكس إشعاعات عقله ونوره ويقينه. يقينه بأن الثقافة هي وبالدرجة الأولى، نورٌ وأخلاق وارتقاء، لاظلام وجهل وسموم فتاكة في تحريضها على الفوضى والتبعية والغوغاء..