تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


(بوكــر) ربيــــع جابــــر ...من التجريب الثقافـي إلى البُعد الشعبي

فضاءات ثقافية
الأحد 1-4-2012
ليس في مقدورنا أن نعرف شيئاً عن ربيع جابر سوى عمله الروائي وهو عمل يجوز أن نقول إنه ضخم. فمن العام 1992 الذي ظهرت فيه أولى روايات جابر «سيد العتمة» لا يزال ربيع جابر يتبع الرواية بالرواية.

وإذا كانت روايته الثانية ظهرت بعد عامين من صدور الأولى فإنه أصدر في العام 1997 روايتي «كنت أميراً» و«رالف رزق الله في المرآة» كما نشر عام 2005 «تقرير ميليس» والجزء الثاني من رواية مسلسله صدر منها حتى الآن ثلاثة أجزاء ولم تكتمل هي «بيروت مدينة العالم» وتوافق صدور «ليبرتيوس مدينة تحت الأرض» تقريباً مع صدور الجزء الثالث من «بيروت مدينة العالم»، كما أن ربيع جابر بلغ من ملحمته الروائية «بيروت مدينة العالم» أجزاء ثلاثة, لكنه قبل أن يكملها أصدر روايات من بينها «دروز بلغراد» التي نال عليها جائزة بوكر و«طيور الهوليداي إن» آخر أعماله.‏

لا يسعنا أن نعرف شيئاً عن ربيع جابر سوى عمله الروائي فهذا الكاتب لا يخرج من مؤلفه ولا يغادره، لا يقبل الأحاديث الصحفية ولا يخوض سجالات نقدية، ولا يتحدث عن نفسه ولا يعمم حتى صوره الفوتوغرافية، وإذا وجدت هذه فهي لا توجد بإذنه. الصورة التي يريد ربيع جابر أن تكون له لا تتصل، من قريب أو بعيد، بسيرته الخاصة أو خياراته الشخصية، أو مزاجه بل هي لا تتصل حتى بملامحه الجسدية. الصورة التي يعممها ربيع جابر عن نفسه هي صورة مؤلف ورقي. ليس سوى الكاتب والمؤلف وهو موجود في كتبه، ما عدا ذلك ليس سوى تفاصيل يريد أن تبقى له. بينه وبين الناس كتبه وما سوى ذلك فله وحده، كتبه غزيرة فإذا كان جابر ضنيناً بملامحه الشخصية, فهو ليس ضنيناً بالكتابة، إنه يغرف من بحر بيد أننا إذا حاولنا أن نستشف حياته وصفاته ومزاجه من كتابته لن ننجح. فالروائي ربيع جابر قلما يقترب من الشخص الذي هو، وقلما يضمن رواياته شيئاً من شخصه أو سيرته أو حياته. وإذا فعل ذلك فبقدر من التحايل والتستر. من يبحث عن الشخص في المؤلف الروائي يعود بخفي حنين، ولن يجد في العمل الروائي ما يسعفه. رواية ربيع جابر رواية أولاً وشخصيات رواياته أبطال روايات في الأساس. ليس في رواياته أي رسالة مقصودة وليس في أبطال رواياته ما يمكن نمذجته أو تعميمه. ليس في هذه وهؤلاء سوى اللعب والتفنن، ليس سوى الاختراع. وإذا جاز لنا أن نصف أشخاص وأبطال روايات «ربيع جابر» قلنا إنهم ممن نجدهم في الروايات وإننا نجد أمثلة لهم في الروايات. ليس في هذه الروايات فلسفة خاصة, وإن تلبّس الأشخاص أحياناً فلسفات فهذا قد يكون من قبيل الرواية، ولنا في الروايات الذائعة شخصيات لها فلسفاتها ولها مواقف من الوجود والعدم، بل إن ثمة جانباً من الرواية العالمية يتماهى مع الفلسفة ويتبنى بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مواقف من الوجود والعالم.‏

ليس ربيع جابر من هذا الجناح، إذا فكر أبطاله فلأن هذا جزء من اللعبة، وإذا سلفت منهم آراء وتأملات فلأن هذا من الرواية، وليست الرواية نفسها محدودة بهذه اللعبة، وليس لها ذلك المغزى الفكري وليست لها غاية سوى الوفاء بشروطها هي، شروط اللعب وشروط الفن، ولنقل إن المراس الروائي هو غرض «ربيع جابر» من الرواية، وأنه يريد من اللعبة أن تكون وافية ومن الشخصيات أن تكون نابضة، وما غير ذلك ليس سوى من لبوس الفن ومن عدته ومن مظاهره، ليست الأفكار ولا العواطف ولا المواقف هي عمدة الرواية. إن مرت الأفكار أو المواقف أو المشاعر فكما تمر في الروايات. ليست غاية بحد ذاتها ولا تحمل رسالة خاصة، وإنما يتوخى منها أن تكسو الأحداث وتكسو الأشخاص هيئة وصورة وجسما وحبكة.‏

«ربيع جابر» لا يختار فحسب أن يكون روائياً, وإنما يبقى طموحه وشاغله ومقاصده روائية، بل إنه بهذا الطموح جعل من رواياته الواحدة تلو الأخرى تجارب روائية. ففي كل رواية من روايات «ربيع جابر» نتذكر نمطاً عالمياً. كأن الروائي في تجاربه الروائية يحول الرواية إلى مباراة يقتحمها ويخوضها شوطاً بعد شوط، بل إنه جرب في جملة ما جرب «الرواية الفكرية» نفسها على أنها هذه المرة نمط فحسب. هكذا نراه يجرّب الرواية الريبورتاج في «رالف رزق الله في المرآة» التي هي عبارة عن ريبورتاج حقيقي أو متخيل بعد انتحار رالف رزق الله، ويكتب في «البيت الأخير» رواية عن مارون بغدادي ثم يكتب في «كنت أميراً» رواية من روايات، رواية ثقافية مبنية من إعادة صياغة قصة للأطفال ممزوجة مع كتاب علوم أحياء عن الضفادع. ثم إنه في نظرة أخيرة على «كين ساي» يخترع من خلال مطالعات في التاريخ الصيني رواية عن الصين ومدينة صينية. الأمر نفسه في «أميركا» التي هي في نتاجه الأخير، إذ إنه هو الذي لم يدس بقدميه أميركا يكتب رواية عن أميركا تجوب في مدن وأماكن أميركية، وإذا كان كافكا سبقه إلى رواية عن أميركا بدون أن يراها، فإن رواية «ربيع جابر» لا تتناول أميركا كرمز وكعالم جديد بل تتناولها أولاً كمكان وتنتقل فيها من مدينة إلى مدينة ومن مطرح إلى مطرح.‏

إذا كنا ذكرنا كافكا عرضاً في معرض الكلام عن الطموح الروائي «لربيع جابر» فإن الرواية العالمية بالنسبة لجابر مدرسة كبيرة، ولا شك أن نفسه تحدثه دائماً بأن يباريها، وأن يتنكب وعورها وأن يجاري كبارها، فليست تجارب «ربيع جابر» الروائية والأنماط التي مارسها منها بعيدة عنها. وإذا كان أزرا باوند, وت. س. إليوت ضمنا الشعر رموزاً من مطالعات وكتب معروفة، فإن «ربيع جابر» يفعل مثيل ذلك في الرواية.‏

أما التاريخ فربيع جابر يعرف التاريخ بقدر ما يخترعه. إنه يكتب كمؤرخ للدرجة التي ألهمت كمال الصليبي الراحل كتيباً عنه. يعرف التاريخ بقدر ما يخترعه، فكل هذا التاريخ الذي نجده في روايته هو عبارة عن قطعة صحيحة جنب قطعة مصنوعة ومتخيلة، لكن للمتخيل والمصنوع ذات صنعة الحقيقي. يعمل ربيع جابر في ذلك كما يعمل مزورو الآثار، أي أنهم يعيدون اختراع الآثار كذلك يعيد ربيع جابر اختراع التاريخ. لكن روايات ربيع جابر التاريخية لا تعاند التاريخ ولا تبدو وكأنها تصارعه أو تقوّله ما تريد، أو تلويه كما تجب. رواياته التاريخية تبدو في صلح مع التاريخ وكأنها مكتوبة بحبره. نضيع بين الروائي والمؤرخ. تلك بالطبع خدعة الكاتب. ربيع جابر يحول التاريخ إلى قصة مشوقة فنضيع نحن بين التاريخ والرواية، ونصدق تاريخ ربيع جابر أكثر مما نصدق التاريخ. ذلك أن سرد ربيع يجعل التاريخ حقيقياً وحياً أكثر مما هو في كتبه الأصلية. ربيع جابر الذي صدر عن رواية ثقافية بالأساس وتجريب روائي متعدد الحلقات، قد استطاع أن يضيف إلى هذه الرواية بُعداً شعبياً أو أن يفتحها على بُعد شعبي، عمله من هذه الناحية أصيل وفريد وإذا كان هذا وحده سبباً, فإنه يكفي لجائزة بوكر. وربيع جابر بالتأكيد يستحقها.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية