فهي ما يمكن وضعه في خانة الفروق الشخصية وهي فروق قد يهتدي العلم إلى مواقعها في الدماغ، غير أنه لا شأن له في أن يوجدها، قد يستطيع تعطيلها عن طريق تخريب مركزها في الدماغ غير أنه عاجز عن ايجادها، حتى الآن وهي بهذه الصفة تقترب بجدارة من خانات الابداع بقدر ما.
كنا صغاراً، وكان بعضنا يتوقف عند الخلل الوزني فيشعر به قبل أن نعرف شيئاً عن (العروض) وحين يقرأ بيت شعر من قبل من لا يحفظه جيداً فيضع مفردة مكان أخرى فيتأثر السياق الايقاعي ويظهر الخلل...كان بعضنا (يحس) بذلك، ولا أقول (يدركه)، لأن الادراك حالة وعي لها علاقة بمعرفة بنية الشيء المتكلم عنه، وبنظام تشكله، هذه الموهبة التمييزية قد تؤهل من يمتلكها لأن يذهب إلى مواقع الشعر، وليس شرطاً أن يكتب شعراً جيداً بيد أنه يكتب شعراً سليماً من الناحية الوزنية وهذا شأن معظم علماء النحو والفقه وما شابه وقد رغبوا في أن يكونوا في خانة الشعر فكانت لهم خانة (النظم) الايقاعي وثمة من قرأنا لهم وهم محسوبون بطريقة ما على الشعر، وليس في انتاجهم من مكونات الشعر غير سلامة الوزن، إلا فيما ندر.
لعله من المهم الاشارة إلى أن اكتشاف الكسر الوزني في نظام العمود هو أسهل بكثير من اكتشافه في نظام التفعيلة وذلك لأن مدى البيت في نظام العمود لا يتجاوز حدي (الصدر) و(العجز) وهما في أكثر الحالات أربع تفعيلات في كل منهما، بينما نجد أن السطر الشعري في قصيدة نظام التفعيلة قد يطول إلى عشر تفعيلات أو أكثر في السطر الواحد وفي مثل هذا الامتداد يصعب التقاط الخلل الوزني إلا على من امتلك حساسية سماعية للايقاع الوزني كما أن من يختار نظام العمود حين يشك بوجود خلل وزني فإنه يقطع أربع تفعيلات لا غير، بينما على من يريد اكتشاف حقيقة ذلك الشك في نظام التفعيلة أن يعود إلى بداية ذلك السطر مهما بلغ طوله.
هذا الجهد لعله دفع بالبعض إلى إغماض العين بل والسعي لإيجاد تخريجات لا علاقة لها بصميمية المسألة.
بموازاة هذه الحالة التي ذكرناها ثمة حالة أخرى خاصة بمن تفور في داخله أحاسيس شعرية ويمتلك ذائقة فنية جمالية عالية ولربما جرب أن يكتب الشعر فأوقفه عجزه عن كتابة القصيدة الايقاعية على أبواب خيارات غير مبهجة فوجد في العصر الحديث منذ ستينيات القرن العشرين شكل قصيدة النثر فلم يذهب إليه فقط بل بدأ بالبحث عن مسوغات وتنظيرات ركبت سكك فلسفات متعددة المنابع لعل أكثرها تداولاً في الحقبة المعنية الماركسية التي تعتمد على ربط المظاهر الروحية بأنماط الانتاج المجتمعي وبعد أن غاب حضور المدرسة الماركسية عن ساحة الحضور السياسي والثقافي منذ أن انفرط عقد المنظومة الاشتراكية ذهب البعض إلى منابع الاسطورة والبدايات الأولى لإيجاد مقولات مقنعة داعمة لربط الحبل السري بمصدر أمومي ما، قد يكون من المفيد التذكير بأن بدايات ولادة قصيدة النثر كانت في الغالب الذي وصلنا على أيدي شعراء معظمهم إن لم يكن كلهم كانوا ينتمون إلى الفكر السوري القومي الاجتماعي ونذكر في عجالة على سبيل المثال: محمد الماغوط ومجلة شعر التي روجت لهذا النمط، ربما لإحداث خرق في الجدار الصلد الذي واجهها آنذاك أو طلباً لربط مالا يتحقق إلا إذا محونا أو تجاهلنا عن عمد فترة زمنية طويلة هي فترة ما عرفناه قبل الاسلام وفترة الاسلام ذاته ذهاباً إلى النازع المتخيل، أو المتوهم في الحضارات السورية وبلاد ما بين النهرين وربما شكلت فيما بعد بعض ترجمات الرقم المكتشفة ما قد يعد بما هو أكثر.
في هذا النسق يمكن ذكر سليمان عواد، الياس فاضل، وآخرين أقل شهرة بيد أنهم ساروا في ذلك الطريق.
لنلاحظ هنا أن البدايات كانت على أيدي السوريين القوميين وانتهت أن رافعتها الايديولوجية الثقافية فيما بعد كانت على أيدي من يقولون عن أنفسهم إنهم ماركسيون!!
إن هذا التحول يؤكد أن الاصرار على وجود غطاء ايديولوجي لم يكن من خاصية العمل الابداعي لأن خاصية العمل الابداعي هي أدبيته وليس احالاته الفلسفية الايديولوجية، والمرجعية الفلسفية الفكرية في (النقد) لابد منها حتى حين تكون مأخوذة من منابع متعددة وهو ماكان يطلق عليه من قبل المتشددين الايديولوجيين أنه (تلفيق)!!.. في النقد.. هذا لا فكاك منه، أما في الابداع فالأمر مختلف لأن الابداع يمتح من عوالم متعددة معقدة وشاسعة حتى ليمكن القول إن لكل مبدع عالمه هذا إن لم نقل عوالمه، الذين وجدوا أنفسهم في حالة من عدم ضبط التوازن حين يسيرون على صراط الايقاع/ الوزن وهم راغبون في العبور ذهبوا إلى قصيدة النثر، وأكرر أن هذا توصيف وليس تقييماً إذ لا يمكن أن نضع ابداعات قصيدة النثر في سلة واحدة حتى لو رغبنا في ذلك، إذ لا يجمعها إلا توصيف أنها قصيدة نثر فلكل عالمه ولغته وحساسيته.
في التعليل نحن لسنا في رأي واحد وهذا طبيعي ومشروع ومطلوب فقد خنقتنا (الأحاديات) والتعليل لا يعني أنه مشروع حكم بالأفضلية بل هو سعي إلى تفسير الظاهرة.
في التعليل يمكن القول إن عصر مدنية المركز الفاعل وهو مركز غربي إلى حد الحصر حتى تاريخ هذه الكتابة على الأقل، هذا العصر هو عصر النثر أو التناثر وبعثرة كل ما لا يتسق مع النهج العولمي المتوحش.
ما يزيد من ثروة الأثرياء وحده الموضوع على سكة الخطة المحبوكة بإتقان وما عداه ليس مما يحظى بالاهتمام إلا بمقدار ما له من تأثير في حالتي السلب والايجاب، والابداع بما يحمله من أفكار ومن أشكال، يحكم عليه من خلال هذا الموقع لا غير فالجهات المعنية يشغلها أن تضع الأفكار والمقولات والمبادئ والاجتهادات بحيث تصب محصلاتها في خدمة ذلك التيار المتوحش والذي يفترق جوهرياً عن روحية الأدب والابداع بعامة بأنه غير معني بهموم الانسان وانكساراته بل هو سببها الأساس، بينما تشكل عذابات الانسان المنابع التي لا تنضب بالنسبة للمبدع الأصيل.
نلاحظ (نثرنة) العالم، واستئصال المميزات التي تشكل جزءاً من هوية الأمة أو الشعب وذلك من أجل أخذ الجميع إلى موقع (البازار) المنصوب في أسواق العواصم العالمية المسيطرة.
(نثرنة) العالم هذه هي التي سبق ذكرها، أرجو ألا يلعب أحد بإحالتها بعيداً عن مرماها فيخلع عليها بردة أنني أتهم من يعنيهم الأمر بأنهم يترجمون خطة الأجنبي معاذ الله، ما قصدت هذا ففيهم من الوطنيين والقوميين والتقدميين من هو فوق كل شبهة غير أن رذاذ (نثرنة) وفرط العالم تصيبهم كما أصابت غياب الزخرفات والمنمنمات والجماليات الصغيرة المؤنسة المؤنسنة، فقد غابت أطباق القش الجميلة ولوحات الصناديق المحفورة والعمارة المشيدة بكثير من إشاعة الروح الدافئة وحل محلها بناء حاد الزوايا منفر نافر وصارت السلعة المنتجة بتكرار واحد وسريع ومسوق سلفاً صارت هي الأساس، هذه الملاحظة لا تعني أن استدراك الهوية يكون بالعودة إلى نظام محدد، فتلك مسألة أخرى بيد أنها تعني أن يكون المضمون حاملاً جذوة الوعي لمجريات ما يحاك في الدوائر ذات الصلة من ناحيتي البناء الجمالي للنص ومضمونه الذي قد يكون عبر اشارات ابداعية ورموز واحالات قد تبدو للبعض أنها بعيدة وغامضة.
Al-name@gawwab.com