الوطن الكبير يبدأ من المنزل من الحارة إلى القرية إلى الوطن.. ولذلك حين قالوا حب الأوطان من الإيمان لم يكونوا مخطئين، بل حب الوطن إيمان به بحريته بعدالته، وصفحات التاريخ تقول: إن الشعب السوري ولا يزال وسيبقى رمزاً لحب الوطن وافتدائه.. مرّ غزاة وعبروا كانوا عابرين عابرين ولئلا نطيل، هل اليوم الذي نحتفي فيه بالجلاء العظيم إلا ذكرى نضال ضد المستعمر الفرنسي الذي ظن أنه سيبقى مخلداً على أرضنا؟ لم يفهم أن هذه الأرض تلفظ كل غريب وتحيله إلى ذكرى ورقم عابر في سلسلة العابرين.
نضال شعبنا كان مداداً لأقلام الشعراء الرواد الذين سطروا أروع الملاحم في نضال الجماهير ووثبتها ضد المستعمر الفرنسي فصوروا هول الجرائم التي ارتابها بحق شعبنا العربي.
فها هو خير الدين الزركلي يصف الفاجعة التي حلت بدمشق يوم قصفها الفرنسيون.
الله للحدثان كيف تكيد؟ - بردى يغيض وقاسيون يميد
وبعد أن يحدد الداء يقدم الدواء، إنه المقاومة، فالمقاومة، فلا حياة للضعفاء أفراداً أو أوطاناً وعليهم أن يستعدوا لمقارعة الطغيان.
- لانت عريكة قاطنيه وما دروا/ أن الضعيف معذب منكود، ويهب الشعب العربي ثائراً محطماً المستعمر الفرنسي
غلت المراجل فاستشاطت/ أمة عربية غضباً وثار رقود...
وينهي بحكمة عمرها آلاف السنين، وهي حقيقة تاريخية إن الشعب إذا ذاق الحرية فلا بد أن يبذل من أجلها كل غال ونفيس.
والشعب إن عرف الحياة/ فما له عن درك أسباب الحياة محيد، أين الحضارة..؟
أما الحضارة التي وعدونا بها، أو أتوا تحت شعارها العريض لم تكن إلا وهماً وزيفاً وإدعاءً، ليست سوى حجج واهية من أجل استغلال ثروات الشعوب ونهب مقدراتها
خدعوك يا أم الحضارة وارتمت /تجني عليك فيالق وجنود، وبدوره يسأل شاعر الشام شفيق جبري الفرنسيين يوم خرجوا من مدحورين قائلاً:
قل لصحبك والأمواج تحملهم /هل الحضارة تذليل وتعبيد؟
ذكرى سجونك ماتنفك ماثلة/ لم يمح من هولها عيد وتعييد، وحين يتحقق الجلاء يمتد الفرح في أرجاء الوطن كافة فسورية هي عروس المجد يقول أبو ريشة:
ياعروس المجد تيهي واسحبي في مغانينا ذيول الشهب
لن تري حبة رمل فوقها/ لم تعطر بدماء حرّ أبي
أما شفيق حبري فيرى الحلم وقد صار حقيقة!
حلم على جنبات الشام أم عيد /لا الهم همّ ولا التسهيد تسهيد
أتكذب العين والرايات خافقة/ أم تكذب الأذن والدنيا أغاريد؟
وفي قائمة الشعراء الذين خلدوا الجلاء أسماء تبدأ ولاتنتهي بدءاً من بدر الدين حامد وما من شاعر عاصر الجلاء أو جاء بعده إلا وكتب لهذا الحديث العظيم والمفصلي في تاريخ وطننا، وبالإضافة إلى الشعر كانت كتب روايات ودراسات ومراجع.
وفي هذا المجال يشار إلى أن السيدة كوليت خوري الأديبة السورية المعروفة وضعت كتابين جميلين عن الجلاء، كتابان يعتمدان على التوثيق وهما حافلان بالصور النادرة، والكتابان هما : العيد الذهبي للجلاء والثاني: قصة الجلاء وهذان الكتابان يقدمان شريطاً وصوراً لأفراح الجلاء الأفراح التي عمت الوطن كلّه.
وإن ذكر الجلاء فلابدّ أن يذكر الشاعر الكبير بدوي الجبل، فله أكثر من رائعة في ذلك وله نثر بليغ في ذلك ففي الاحتفال الذي أقيم في ساحة الشيخ ضاهر باللاذقية يوم الخميس 18/4/1946م بمناسبة الجلاء ألقى كلمة رائعة ومما جاء فيها:
أيها الشباب، أيها الإخوان، سادتي:
هذا يوم القومية العربية، لايوم إسلامية ولانصرانية، هذا يوم الأمة مجتمعة قوية لايوم طائفية ولا إقليمية.. اليوم يومكم أيها الشهداء ألا ترون الراية البغيضة وقد نكست ودياركم وقد طهرها الدم، فما تدنست.. هذا يومكم أيها الشباب، لقد كنتم الأمناء على أمجاد العرب وتاريخ العرب، فما شغلكم الصبا الريان عن مكافحة الطغيان، ولاصرفتكم الواجبات المدرسية عن الواجبات القومية.