ولم يكن مألوفاً أيضاً وجود الأجهزة التلفزيونية في المحال التجارية، والنتيجة أن الأسواق في غير مدينة، وفي مقدمتها دمشق، كانت تفرغ من الباعة والمشترين مع اقتراب موعد العرض..
قليلون الذين كانوا يشذون عن هذه الحال، أكثرهم من تجبرهم طبيعة أعمالهم على البقاء خارج منازلهم، وأقلهم حفنة ممن يعتبرون أنفسهم نخباً ثقافية (تترفع) على كل ما يلتقي مع المزاج الشعبي، مع أن زلات لسان صغيرة كانت تكشف زيف ادعاءاتهم.في ذلك المناخ دعيت منتصف السبعينات، وطالب آخر، لنمثل النادي السينمائي في برنامج تلفزيوني جديد عن السينما، (ستدين) الحلقة الأولى منه أفلام دريد لحام بحضوره. كما قال لنا مخرجان في النادي.سألناهما ببراءة لماذا لا يمثلان هما النادي؟ فتلقينا إجابة (مغمغمة) استنتجنا منها أنهما يفضلان ألا يكونا في الواجهة... وهو ما شاهدناه فعلاً يوم تسجيل البرنامج, حيث انضما إلى أربعة مخرجين (واعدين) آخرين في (كنترول) الأستوديو، منهم مخرج البرنامج، ومخرج آخر لم يستطع منع نفسه من التعليق بسخرية عن وجود ستة مخرجين سينمائيين لتسجيل برنامج منوعات تلفزيوني!!
كان كل شيء قد أعد بدقة لإعطاء البرنامج صفة الحيادية، فمقابل استضافة ثلاثة مثقفين كبار (مناهضين) لدريد لحام، ومعهما نحن الاثنان ممثلا الجيل الشاب المثقف، جُلب خباز ولحام و خضري كممثلين عن الفئات الشعبية التي تحبه. كنا مندوبي النادي السينمائي نشعر بزهو كبير، وبثقة لا حدود لها ونحن نرقب ميزان القوى هذا. ولما بدا المذيع النجم حواراته مع الضيوف لم تستفزنا عبارات المديح الشعبية التي كالها الحرفيون لـ(غوار)، فهي ما كنا نتوقعه منهم أصلاً.وبصمت جليل انتظرنا حديث الضيوف المثقفين: الإعلامي الكبير، والأديبة المرموقة، والمخرج السينمائي القدير، فهم من سيقولون ما نريد سماعه.لكن الذي حدث كان مفاجئاً ومحبطاً إلى أبعد الحدود، فقد امتدح ثلاثتهم دريد لحام، بل أنهم امتدحوا شخصية (غوار) بالذات..وتبادلنا نحن ممثلا الجيل الشاب المثقف نظرات خائبة، فما الذي سنستطيع قوله بعد أن خذلنا كبار المثقفين؟..حاولنا بإمكانياتنا الضئيلة أن نعيد الحديث باتجاه تجربة دريد لحام في السينما، فهو ذاته يشاركنا بانتقادها، لكن المذيع النجم فضل أن يحصرنا في إطار الأسئلة الجاهزة لذلك الزمان مثل: ما رأيك بمقولة الفن للفن؟ دون أن يكون معنياً حتى بسماع إجابتنا، وكانت محصلة مشاركتنا التلفزيونية الأولى حضوراً باهتاً لم يلفت نظر أحد.وحين التقيت بعد ذلك مصادفة مخرج البرنامج المتحمس جداً لمحاربة (ظاهرة غوار)، حدثته معاتباً عن استيائي من المأزق الذي وضعنا به، فأجابني بواقعية لم أعهدها في حديثه السابق: تعلم أن دريد لحام قامة إبداعية لا يمكن الانتقاص منها!!
في الواقع لم أكن أريد أن أعلم، بحكم الاقتداء بنخب ثقافية ..لكني في تلك اللحظة علمت، وتعلمت، في الآن ذاته، واحداً من أهم دروس حياتي.وأسفت مراراً لأن الكثير من أصدقائي لم يتح لهم المرور بتجربة مماثلة، حتى أن أحدهم اشتكى يوماً من أنه كاد (ينفجر) وهو يكبت ضحكاته أثناء مسرحية «غربة»، ولما سُئل عن سبب إرغام نفسه على أمر بهذه القسوة، أجاب باقتناع: لا يصح لي أن أتجاوب مع مسرحية كهذه، وأنا طالب أكاديمي في المعهد العالي للفنون المسرحية!!
الأسبوع الماضي زار دريد لحام المعهد المسرحي لأول مرة منذ تأسيسه. وصل بهدوء قبل ربع ساعة من موعد اللقاء، برر بلباقة غيابه كل هذه السنين الطويلة بالقول إنه تهيبٌ من لقاء شباب أكثر منه ثقافة وموهبة (!).. حكى بدفء عن سيرته الفنية، وقيّم بشجاعة بداياته التلفزيونية، وتجربته المسرحية. تحدث عن تجربة (مسرح الشوك) معيداً التذكير بأنها فكرة الراحل عمر حجو، وكيف أنهما ابتدعا فكرة مهرجان دمشق المسرحي ليستطيعا تقديم عرض مسرحية «جيرك» دون المرور على الرقابة، والاصطدام بها. تحدث عن تجربته المشتركة مع محمد الماغوط، ونجاحهما المشترك، وفشلهما بعد ذلك منفردين.داعب بلطف طالب قال على لسان أحد أساتذته إن شخصية (غوار) مأخوذة عن أصل روسي، قبل أن تصحح زميلته ما نقله، بأن مسلسل «حمام الهنا» هو المأخوذ عن حكاية روسية..
كانت المسافة بين المسرحي الكبير، وطلاب المسرح الشباب تضيق مع كل سؤال وإجابة..إلى أن كان السؤال الأخير طلباً:
- نريد أن تختم اللقاء بأغنية.
فغنى بدفء وغنوا معه بالدفء ذاته.فبدا أن المسافة بينهما قد ضاقت حتى التلاشي..