رأينا في الحلقة السابقة من سيرة الحب عفواً أقصد سيرة البؤس والنحس وخيبة الرجاء كيف أن السيد دندوش الطويل الهبيل دخل إلى عيادة الطبيب قرة بيت الشبيهة بأحد مكانين, أولهما قميم الحمام, والثاني هو مقهى العم صطوف الكجة وأعلن أمام الزبائن المتسكعين في غرفة الانتظار أنه آت ليصبح ممرضاً فانطلقت على الفور ضحكات صاخبة, مقرقعة, مجلجلة لا يمكن للإنسان مهما طال عمره ومهما ساح في دول العالم أن يسمع مثلها في عيادة طبيب بشري أو حتى بيطري, وانطلقت التعليقات المتداخلة التي كانت توبخ دندوشاً وتقرعه وتستهجن به وقال أحدهم وسط الهيصة:
يلبق لك على شراطيطك غانجة يادندوش ابن أمن دندوش
وقال ثان: الجمل لو شاف حدبته, كان وقع وانكسرت رقبته.
وقال ثالث: لابق للشوحة مرجوحة ولأبو بريص قبقاب.
وسحبت إحدى النساء من فم رضيعها ولكزت زوجها ووشوشته بكلام سرعان ما قاله لدندوش بصوت مرتفع:
الجمل من رقة شفاتيره صار خطابة.
وكان الرجال والنساء الكثيرون الجالسون دائر مدار العيادة يضحكون إثر كل تعليق, وبعضهم ينقلب على قفاه فيصطدم رأسه بالحائط الذي ما يزال مبعجراً من دون تطيين أو كما يقولون على حجر البنا, والبعض الآخر ينقلب ضحكه إلى سعال ويغبق وجهه ويضطر لأن يمعس سيجارة الحموي الممتاز بأرض العيادة ويحاول في الوقت ذاته أن يقول:الله يعطينا خير هذا الضحك ياشباب.
فلا ينتبه لدعوته أحد كل هذا ودندوش الطويل الهبيل غير مكترث ولا يبدو عليه أي انفعال أو انزعاج دواليك حتى خرج الدكتور قره بيت من الداخل, وهو يقرع الزبون الذي كان لديه قائلاً:ملح, حامض, فليفلة مشلفط ممنوع تدوقيها الشاي التقيلة كمان ممنوع, عندك بواسير بدي أفهم إنتي إشو مفكرة بواسير? لعبة ولاد هاي.
ثم شرع يقرع الموجودين في العيادة قائلاً لهم: وأنتو أيش هادا ضحك? الواحد منكم تنسى إنها قاعد في عيادة طبيب تفكر حالها قاعد في كاباريه?!
وتبرع أحد الحاضرين فأفهمه أنهم يضحكون بسبب قدوم دندوش إليه لكي يعمل بصفة ممرض وبما أنه لا يعرف من يكون دندوش قال لهم: هاي كلام ما بتضحك أيش فيها إذا هي بتشتغل ممرض?
ثم قال لدندوش أيش قصتك أنتي?
قال دندوش: اسمي دندوش بعتني خالي أبو ممدوح منشان تشغلني عندك ممرض.
قال قرة بيت: على راسي خواجا دندوش أنت وين اشتغلتي قبل? يقصد في أية عيادة أو مستشفى أو مستوصف.
فقال دندوش ببراءة: اشتغلت معلم لحام قصدير عند التنكجي يوسف الدك, واشتغلت في كبس الصرامي عند أبو رستم الطورنوجي واشتغلت حلاب بقر في المبقرة الحكومية بقرية كتيان, ولولا أني دخلت إلى مهجع الثيران بالغلط وعجقتني الثيران بحوافرها كنت هلق أكبر حلاب بقر في البلد.
واشتغلت..
لم يستطع دندوش إكمال حديثه, لأن الدكتور قره بيت وقع على الأرض من فرط الضحك, والرجال استغلوا فرصة الحبور الذي انتاب قرة بيت فهللوا وهيصوا والتف بضعة منهم حول بعضهم وصاحوا:
صلوا على محمد زين زين مكحول العين, واللي يعادينا الله عليه وزغردت النساء على نحو عفوي, ولقم أحدهم مسدسه وأدخل فوهته في النافذة وأطلق سبع طلقات بوضعية (دراكاً) وأما دندوش فبقي على رباطة جأشه وقال لقره بيت: أيش بك دكتور? ليش عم تضحك?
فقال قره بيت متصنعاً الاهتمام الزائد:طيب خيو, وأنت أيش اشتغلتي كمان?
قال دندوش: صياد عصافير بالنقيفة, مرة كان معي خمسين حصوة وكان واقف على شريط التلفون خمسين زرزور اصطدتها جميعاً كل زرزور بحصوة.
وضع قره بيت يده على كتف دندوش وقال له بحنان مفاجئ: أنت كذابة كبيرة دندوش لاكن كويسة كتير وبتخلي واحد يضحك هلق زرزورة ضربتيها بالنقيفة زرزورات تانيات ماطاروا?
قال دندوش: الكذاب ملعون ما طاروا.
قال قره بيت: فهمت عليكي ياملعونة معناتا زرزورات كرهانات هاي عيشة وبدهن ينتحروا! وانفلت بالضحك مرة أخرى ومرة أخرى وقع على الأرض.