تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


نكتة الحيلة.. والذكاء

صفحة ساخرة
الخميس 21/6/2007
نصر الدين البحرة

لم يكتمل حديثنا عن النكتة التي تعتمد على الحيلة مما قدمنا في الصفحة الساخرة السالفة وثمة حلقات اخرى حول هذا الموضوع

متابعة لما بدأنا به الكلام على النكتة انطلاقا من النكتة التصاعدية مرورا بنكتة الموقف على اختلاف فروعها وضربها ولابد أن يلاحظ القارئ الكريم اننا في هذا نعتمد في الشواهد والأمثلة على ثراتنا العربي الزاخر بكل ما هو طريف ونادر وضاحك خلافا للصورة المتخيلة عند بعضهم عن هذا التراث الجميل.‏

قد تكون الحيلة في بعض الحالات اسلوبا لحل مشكلة عويصة مثلما حدث يوم تظلم اهل الكوفة من عاملها(1) إلى المأمون فقال لهم: ما علمت في عمالي أعدل منه فقال رجل من القوم: يا أمير المؤمنين فقد لزمك ان تجعل لسائر البلدان نصيبا من عدله حتى تكون قد ساويت بين رعاياك في حسن النظر فأما نحن فلا يخصنا اكثر من ثلاث سنين فضحك المأمون وصرف عامله على الكوفة.‏

الإظهار والابطان في الحيلة‏

وقد تتخذ الحيلة سبيلا فيه مكر ونية خبيثة واظهار وابطان فقد جاءت دلالة إلى رجل(2) فقالت: عندي امرأة كأنها طاقة من نرجس فتزوجها فإذا هي عجوز قبيحة فقال للدلالة: غششتني ! فقالت: لا والله إنما شبهتها بطاقة نرجس لأن شعرها ابيض ووجهها أصفر وساقها اخضر.‏

وقد تظهر الحيلة في صيغة تركيبية يبدو فيها اثر اعمال الفكر واضحا وفي الآن ذاته فإنها تتخذ شكلا تصاعديا يذكرنا بالمشاهد المسرحية اذ يتوالى ظهور الاشخاص وينمو الموقف حتى يصل إلى ذروة الحبك والتعقيد ثم لايلبث أن يسير كل نحو نهايته.‏

من حكايات جحا‏

ومن هذا القبيل ما يروى عن جحا اذ توجه إلى السوق ليبيع بقرته(3) فحدث أن اتفق ثلاثة تجار على خداعه فكان كلما طلب إلى احدهم شراء بقرته قال له: بكم تبيع هذه العنزة يا جحا?‏

وحاول جحا أن يوضح أنها بقرة وليست عنزة لكنهم أصروا على مواقفهم وظلوا يقولون: إنها عنزة.‏

عندئذ تظاهر جحا بالموافقة وقبل أن يبيع البقرة على أنها عنزة ومضى وقد عزم على أن يدبر لهم أمرا.‏

توجه جحا إلى مطعم المدينة واتفق مع صاحبه على أن ينقده مبلغا من المال مقابل أن يأتي اليه بعد قليل ومعه ثلاثة رجال آخران ليتناولوا الطعام وعند الحساب سيشير جحا إلى الطرطور الذي يضعه على رأسه وعندئذ يقول له صاحب المطعم وصل الحساب فيمضي دون أن يدفع شيئا.‏

وعقد جحا اتفاقا مشابها مع بائع الحلوى وتاجر اقمشة ثم ذهب ودعا التجار الثلاثة إلى المطعم اكراما لهم على أنهم وفوا له البيع.‏

وضحك التجار من غفلة جحا وانتهزوا الفرصة ليقوموا بمزيد من استغفاله بتلبية دعوته إلى المطعم وهناك نفذجحا ما اتفق عليه مع صاحب المطعم وقد دهش التجار لإشارة جحا إلى طرطوره تلك التي اعفته من دفع الحساب وحدث الأمر نفسه عند الحلواني وعند بائع الأقمشة ولكن دهشة التجار بلغت ذروتها حتى اعتقدوا أن لطرطور جحا قيمة بالغة تجعل صاحبه يأخذ كل شيء مجانا.‏

الطرطور عند الحساب‏

وهكذا اخذوا يساومون جحا على بيعه فوافق لقاء مبلغ كبير لا يتناسب اطلاقا والثمن الذي دفعوه لبقرة جحا.‏

وفي اليوم التالي وضع احدهم طرطور جحا على رأسه وذهب مع صاحبيه إلى المطعم وعند الحساب اشار إلى الطرطور فظن صاحب المطعم انهم يتبالهون فكان ان نال منهم بالضرب.‏

وارتدى التاجر الثاني طرطور جحا زاعما ان زميله لم ينجح في استعماله جيدا وقصد بائع الحلوى فلم يكن حظه افضل. وتكرر ذلك مع تاجر الأقمشة عندما وضع الثالث طرطور جحا وتوجهوا اليه ليشتروا الاقمشة ويدفعوا ثمنها على طريقة جحا أشار إلى الطرطور وعندئذ أدركوا حيلة جحا وانه انتقم منهم انتقاما لا ينسى وقد تكون الحيلة اقرب إلى الحكاية منها إلى النكتة وان احتفظت بكثير من روح الدعابة والفكاهة.‏

قاطع الطريق الناقد‏

ومن هذا القبيل ما ينقله د. محمد رجب النجار عن القاضي ابي علي المحسن التنوخي انه قال: حدثني عبد الله بن عمر الحارث الواسطي السراج المعروف بأحمد الحارثي قال:(4) كنت مسافرا في بعض الجبال فخرج علينا ابن سيار الكردي فقطع علينا وكان بزي الامراء لابزي القطاع فقربت منه لأسمع كلامه وانظر اليه فوجدته يدل على فهم وادب فداخلته فاذا برجل فاضل يروي الشعر ويفهم النحو فطمعت فيه وعملت في الحال ابياتا امدحه بها فقال لي: لست اعلم ان كان هذا من شعرك ولكن اعمل لي على قافية هذا البيت ووزنه شعرا الساعة لأعلم أنك قلت وأنشد لي بيتا.‏

قال: فعملت في الحال إجازة له ثلاثة ابيات.‏

فقال لي: اي شيء أخذ منك لأرده اليك?‏

قال: فذكرت له ما أخذ مني واضفت له قماش رفيقين كانا لي فرد لي جميع ذلك ثم أخذ من أكياس التجار التي نهبها كيسا فيه الف درهم فوهبه لي.‏

قال: فجزيته خيرا ورددته عليه.‏

فقال: لم لا تأخذه فوريت عن ذلك -اي انه رفض الكيس -.‏

قال: احب ان تصدقني.‏

فقلت: وأنا آمن? فقال:أنت آمن.‏

فقلت: لأنك لا تملكه وهو من اموال الناس الذين اخدتها منهم الساعة ظلما فكيف يحل لي أن آخذه.‏

فقال لي: أما قرأت ما ذكره الجاحظ في كتاب: اللصوص عن بعضهم?‏

قال:إن هؤلاء التجار خانوا اماناتهم ومنعوا زكاة اموالهم فصارت اموالهم مستهلكة بها واللصوص فقراء اليها فاذا اخذوا اموالهم وان كرهوا اخذها كان ذلك مباحا لهم لأن عين المال مستهلكة بالزكاة وهؤلاء يستحقون اخذ الزكاة بالفقر شاء أرباب الأموال أم كرهوا صدق حكاية الجاحظ قلت: بلى قد ذكر الجاحظ هذا ولكن من اين يعلم ان هؤلاء ممن استهلكت اموالهم بالزكاة?‏

فقال:لاعليك انا احضر هؤلاء التجار الساعة واريك بالدليل الصحيح أن اموالهم لنا حلال ثم قال لأصحابه: هاتوا التجار فقال لأحدهم: منذ كم انت تتجر في هذا المال الذي قطعنا عليه? فقال: من كذا وكذا سنة قال: فكيف تخرج زكاته? فتلجلج وتكلم بكلام من لايعرف الزكاة على حقيقتها فضلا عن ان يخرجها ثم دعا آخر فقال له: اذا كان معك ثلاثمئة درهم وعشرة دنانير ومالت عليك السنة فكم تخرج منها للزكاة فما احسن أن يجيب ثم قال لآخر: اذا كان معك متاع للتجارة لك دين على نفسين احدهما مليء والآخر معسر ومعك دراهم وقد حال الحول على الجميع فكيف تخرج زكاة مالك فما فهم السؤال فضلا عن ان يتعاطى الجواب فصرفهم ثم قال لي: بان لك صدق حكاية ابي عثمان الجاحظ وان هؤلاء التجار مازكوا قط خذ الآن الكيس فأنت أولى به.‏

الهوامش:‏

1- اخبار الظراف والمتماجنين ص.116‏

2- المصدر السابق ص.133‏

3- مجلة الهلال- القاهرة - ايلول 1970 نوادر جحا عبد الحميد حواس ص.49‏

4- حكايات الشطار والعيارين في التراث العربي - عالم المعرفة د. محمد رجب النجار ص 56,55,54 .‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية