خرجت هذه الصحف عن صمتها, مستفيضة في استخلاص العبر وإبرازها, وفي تحليل الواقع. ها هي صحيفة لوموند الفرنسية تسلط الضوء- في افتتاحيتها بعنوان -تعذر الالتفاف على غزة- على فشل خطة أميركا في الموضوع الفلسطيني, وتتساءل هل يمكن الحديث عن السلام الفلسطيني- الإسرائيلي, بعد انقضاء ثلاثة أشهر على اجتماع أنابوليس الذي دعت إليه واشنطن في أواخر شهر تشرين الثاني? وقد خُيّل إلى الرئيس جورج بوش مدعوماً من المجموعة الأوروبية سيناريو جديد يعود فيه للالتزام في أواخر أيامه بهذا الملف, من أجل إنقاذ سياسة إقليمية ترنحت وغرقت في العراق. واستغلت واشنطن الانقسام الداخلي الفلسطيني, لتجعل الكفة راجحة لصالح الضفة الغربية, ضمن خطتها المرسومة, كي تجعل منها الدولة المقبلة, تغدق عليها الفتافيت التي ألقيت خلال مؤتمر المانحين في باريس, وبالتالي تعاني حماس, المعزولة في غزة, من الغضب والحرمان, الأمر الذي يؤدي إلى تحول الرأي العام عنها. وترى الصحيفة فشل تلك الخطة, والتي كانت تتطلب أيضاً إلقاء قطاع غزة المحاصر منذ الانسحاب الأحادي الجانب للجيش الإسرائيلي منه في مهاوي النسيان, وفشلت (إسرائيل) في إحراز أي نصر فيما يتعلق بوقف إطلاق الصواريخ التي قلبت مقياس الردع خلال العامين الأخيرين للانتفاضة الفلسطينية الثانية. وانقلب إلى غير صالحها العملية التي شنتها مؤخراً (إسرائيل) بهدف وقف إطلاق هذه الصواريخ. بينما أفضى الحصار الذي ضرب حول غزة, وأكد وشجع عليه وزير الحرب إيهود باراك إلى تدفق الغزاويين المحاصرين في كانون الثاني المنصرم باتجاه الحدود المصرية المحروسة جيداً من قبل الجيش المصري وهدم جزء منه. ولم يحالف الحظ عودة المدرعات الإسرائيلية الأخيرة إلى مخيم جباليا بإحراز نجاح أكثر من سابقاتها, والتي قتلت شعباً مدنياً محاصراً, دون أن تتوقف الصواريخ الفلسطينية على (إسرائيل). وتبين أن هذا المخطط كارثي, حينما استفاقوا ليدركوا أن عسقلان لا تبعد سوى (10) كم عن شمال غزة, ومرمى الصواريخ المتطورة أكثر وخلصت الصحيفة في نهاية افتتاحيتها إلى أن خطة (الضفة الغربية أولاً) انتهت إلى حيث كان ينبغي تجنبه بالتحديد. وهو وضع حماس في قلب اللعبة, وبات الاستمرار في حصار حماس من قبل إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يطرح تساؤلاً ملحاً أكثر من أي وقت مضى.
أما صحيفة لومانتييه: وفي عنوان لها (جيش أولمرت على أهبة الاستعداد دوما للقتل) فقد رسمت صورة للوضع الإنساني الذي تمخض عن هذه العملية العدوانية البشعة من خلال عيون الفلسطينيين الذين ذاقوا ويلاتها, ووصفوها بأنها أكثر من جحيم (إنها نهاية العالم). وناشدوا زعيم السلطة في غزة إسماعيل هنية ومحمود الزهار بإعادة السلاح الذي انتزعوه منهم في حزيران الفائت, للدفاع عن أنفسهم ضد المحتل والمعتدي الإسرائيلي. ويتساءل الأهالي في غزة هل انسحبت (إسرائيل) من شمال القطاع, بعد إلحاق الدمار بالكثير من المنازل الآهلة لتتمركز في جنوبه لاستئناف عملياتها من هناك, ولا سيما بعد تأكيد إيهود أولمرت أن الجيش سيواصل عملياته ضد حماس في غزة, وكل الاحتمالات مفتوحة?
ولم تتوان الصحيفة في توجيه الاتهام بالجريمة إلى أوروبا كونها أغلقت عينيها عن تلك الجرائم. وقد اتسمت ردود الأفعال الدولية بالتحفظ الشديد وحتى التكتم على غرار فرنسا الساركوزية والكوشنرية. فيما الأمم المتحدة, وكعادتها دوماً, استخدمت المساواة بين إطلاق الصواريخ من قطاع غزة وبين العدوان العسكري الإسرائيلي, بينما على الصعيد الإنساني, لا مجال لإجراء مقارنة, وفي المجال السياسي المقارنة ضعيفة لأن (إسرائيل) هي المحتلة, وقد اعترفت القرارات الدولية بذلك, وتغاضت تل أبيب عن الالتزام بها, وامتنعت واشنطن عن ممارسة ضغوط على (إسرائيل), وأطلقت يد حكوماتها لتنفيذ مخططاتها التي لن تفضي سوى إلى المزيد من العنف. فإطلاق الصواريخ لن توقفها عملية عسكرية, وإنما تتم من خلال تفعيل وتقوية عوامل السلام, وإعادة اللحمة إلى الشعب الفلسطيني وكان رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس قد علق المفاوضات مع »إسرائيل) خلال الحرب على غزة, مقتنعاً أنه وفي ظل غياب أي أفق سلام, الاحتمال كبير بأن تتحول الضفة الغربية إلى غزة أخرى.
ولم يفته أن محادثات أنابوليس تعثرت على حافة مواصلة بناء المستوطنات, ليس في غزة فحسب, وإنما في الضفة الغربية والقدس الشرقية. وفي انتظار ما ستقدم عليه »إسرائيل) من عملية عدوانية أخرى في غضون الأيام المقبلة فإن مسؤولية المجتمع الدولي مطروحة. وإن كانت أوروبا ومجلس الأمن قد سارعا في فرض عقوبات على إيران, فهم لا يجرؤون على اتخاذ نفس الخطوة تجاه »إسرائيل), رغم أن تل أبيب تسخر من القانون الدولي, وتعوق إقامة دولة فلسطينية, الشرط الأهم لتعيش في سلام, وتتوقف العائلات الفلسطينية عن إحصاء عدد ضحاياها كل يوم.