الذي خرج بتظاهرات احتجاج (شارك بها أكثر من 200 ألف شخص) قصدت السفارة الأميركية في بلغراد, للتعبير عن الغضب من هذا الاعتراف, وفي هذا السياق نتساءل هل كانت الاحتجاجات التي حدثت في بلغراد أمراً مفاجئاً? بالتأكيد أنها لم تفاجئ أحداً سوى المسؤولين الأميركيين, حيث أعرب زلماي خليل زاد ممثل الولايات المتحدة في هيئة الأمم عن استيائه واصفاً المتظاهرين بالغوغائيين.
لكن من دواعي الاستغراب أن يغضب خليل زاد من الهجوم على مبنى السفارة في الوقت الذي يستنكر به احتجاج وغضب الصربيين جراء تجزئة بلادهم, فماذا يمثل مبنى السفارة إذا ماقيس بفصل جزء من البلاد الصربية التي تعايش مواطنوها مع بعضهم منذ أمد طويل?.
بالنسبة لخليل زاد ( وهو أحد المحافظين الجدد) لاتعني له كوسوفو سوى حيز من الأرض منحه الأميركيون حق الانفصال, أما وزيرة الخارجية الأميركية كوندا ليزا رايس فقد وصفت رد فعل الصرب على اعتراف الولايات المتحدة أنه أمرلايطاق, ورأى مساعد وزيرة الخارجية الأسبق ريتشارد هولبروك أنه ليس ثمة مبرر لقلق الصرب واحتجاجاتهم, ويرى أن روسيا وراء تلك الاحتجاجات, وكأن الصرب لن يغضبهم هذا الاعتراف لولا تحريض الروس لهم, ولم يحدث تمزيق بلادهم وسلخ جزء منها أي تأثير في نفوسهم.
ربما يكون لكوسوفو الحق في ا لحصول على الاستقلال, لكن الحكومة الأميركية عالجت الأمربطريقة مثيرة للاستفزاز.
دأبت واشنطن على التدخل في الشؤون الداخلية الصربية منذ عهد إدارة كلنتون التي أعلنت عن شجبها للمجازر التي حدثت في تلك البلاد, وقليل منا كان يعلم بما تقدمه واشنطن من دعم وتسهيلات لتجزئة يوغسلافيا في التسعينيات من القرن الماضي, وبغية تنفيذ خططها في هذا البلد عمدت إلى قصفه بالطائرات, وقتل المدنيين, واستعانت بالناتو لتوفير غطاء لتصرفاتها الهوجاء بعد أن رفض مجلس الأمن إعطاء موافقته على ما تزمع القيام به,لكن ذلك لم يثن الولايات المتحدة عن أهدافها, حيث تساقطت الصواريخ على صربيا لمدة 78 يوماً مدمرة البنى التحتية بمكوناتها من جسور ومعامل, ومحطات كهربائية ومنشآت بتروكيميائية ومؤسسات اتصالات وأسواق, كما تم قصف اللاجئين والسفارة الصينية وقطار المسافرين الذي كتب عليه عبارة تقول:( آسف حبيبتي, اخبري أطفالنا بأنني لن أعود الليلة, فالرئيس كلنتون قرر قصف القطار الذي ينقلني إليكم). وقد تم في هذا القصف استخدام القنابل العنقودية واليورانيوم المخصب والمؤكد أن الإدارة الأميركية وعملاءها هم المسؤولون عن جرائم الحرب التي حدثت حيث أعلنوا عبر وسائل الإعلام المرتبطة بهم بأن عمليات القصف التي تمت كانت ضرورية لمنع قائد يوغسلافيا سلوبودان ميلو سوفيتش من ارتكاب جرائم حرب, ونتيجة لعمليات التدمير المريعة وجد الرئيس اليوغسلافي نفسه ملزماً بالتخلي عن منصبه, ومن ثم جرى تسليمه للأميركيين وتقديمه لمحكمة لاهاي ليحاكم كمجرم حرب, حيث تولى الدفاع عن نفسه حيال التهم التي نسبت إليه, لكن لسوء الحظ فقد توفي في السجن قبل أن يوضح للمجتمع الدولي عدم وجود مايدعو إلى إدانته, وعجز الإدارة الأميركية عن تلك الإدانة.
إن عدداً من الأسئلة يتعين طرحها مثل: ما الأجندة السرية للحكومة الأميركية في البلقان? لماذا تؤيد الحكومة الأميركية عمليات فصل كوسوفو عن صربيا وما دوافعها? من المستفيد مما تقوم به واشنطن?.
كتب البريطاني المشهور بيرغن دورستورن ( وهو من المحافظين) في 20 شباط أن السمعة الأميركية والوعي الغربي في تدنٍ يوماً بعد يوم.
اللافت أن أوروبا القديمة تسعى للاتحاد فيما بينها لتشكيل قوة جديدة في الوقت الذي يبذل به الأميركيون قصارى جهدهم لتفكيك البلقان إلى دويلات صغيرة, الأمر الذي يجعلنا بمواجهة عدد من الأسئلة منها:
لماذا تحدث تلك الأمور? لماذا أمرت إدارة بوش حلفاءها في بريطانيا وفرنسا وألمانيا بالاعتراف الفوري بكوسوفو?.
لاشك أن واقع صربيا يماثل واقع كل من فلسطين والعراق وإيران من حيث افتقارهم للتواصل مع وسائل الإعلام الدولية ما حقق للامبراطورية الأميركية الغلبة الإعلامية, وبالتالي تمكنها من ترسيخ القناعة لدى الآخرين, إن واشنطن هي من يقرر عائدية البلاد والجهة التي تحكمها.
لقد سبق أن قام كلنتون بقصف صربيا, ثم جاء بوش ليقصف بالأمس أفغانستان والعراق, ويقصف اليوم أهدافاً في إفريقيا, ويتوعد سورية وإيران.
لكن في الأحوال التي سيقوم بها مجانين الامبراطورية الأميركية برمي قذائفهم على روسيا أو الصين فعندها لن نشك بأن نيران القذائف ستحرق الجميع .