ولو تطورت وتوطدت حالة التبصر والوعي عند العرب فحددت آفاق الخطر ورسمت الصورة المنهكة والمكلفة لما هو قادم إليهم, لكان ذلك يعني اصطفافاً في الوعي والقرار من شأنه أن يصدم سيالة التآمر على العرب والاستهانة بهم وهذا ما يمكن أن يدخل في الوظيفة السياسية للإعلام العربي المعاصر المهزوم أمام الحدث والمنكفىء على أضيق الدوائر والمصاب بوهم الخيار التقني والاتصالي وحمَّى التنافس على تدبيج الكلام والتقاط الصور الحية,من الميادين العربية المفعمة بالهزيمة والهوان والمسكونة حتى هذه اللحظة بمسلسل الانهزام المتواتر أمام موجات الحقد المستوطنة والقادمة,ولو تحرك الدم العربي.
أعني المادة النوعية للحياة وتيار القيم ومنطق الدور الحضاري الكبير لتحول هذا الدم العربي إلى خندق مناقض تماماً لمجمل الخنادق الأخرى التي صممت لتغتال وجودنا القومي هذه المرة ولكي تستأجر بعضاً من قوانا العاملة في السياسة والثقافة ليكونوا طابوراً خامساً بمستوى معاصر وبمواصفات تكنولوجية تشترى ولا تصنع,ندرب على وظيفتها مثل الضرب على الآلة الكاتبة ثم لا نستحوذ منها إلا على المصطلح والمسمى اللغة الأجنبية ,أحاول أن أدفع بالحياة العربية أعني بمعناها السياسي الراهن لأكتشف أنا وغيري لأي مسار تختار وبأي خيار تندرج,في مسار المصلحة,في مسار الوعي,في مسار الدم,إن الاتجاهات كلها مفتوحة ومحتملة والإنسان العربي العادي وهو المكتوي بالنار والمجروح بوجدانه والمحاصر بموقفه يحاول أن يتلمس خياراً في التفسير ويحاول أن يعثر على ديناميكية ولو محدودة في التقاط بداية الخيط.
لكن المأزق الخطر هو ألا يندرج هذا الواقع العربي في واحد من احتمالات المصلحة أو الوعي أو الدم أو ألا تجد هذه الخيارات طريقها إلى تفسير الحياة العربية السياسية الراهنة,عندما لا نكون كعرب قد خرجنا على منظومة الفعل ورد الفعل وإنما نكون قد خرجنا من المنظومة بصورة نهائية,وهذا الاحتمال هو موضع الرهان من الآخرين علينا ومن بعضنا على أكثرنا,والخطر هنا مزدوج ,إذ هو سوف ينشر قناعة في الداخل العربي تؤكد بصورة متدرجة أن العرب لا يملكون قابلية الإحساس ولا يرون ضرورة لطرح ملفاتهم وقضاياهم على قاعدة الخطر نفسه .
ثم تتشكل هذه النظرة عند الآخر من موادها المعروفة المتمثلة في المزيد من الاندفاع نحو العرب والمزيد من الإمعان والإغراق في تدمير نسيجهم والمزيد من الاستهانة بوجودهم وفعلهم وصحوتهم,نذكر تماماً في هذه الحالة ما قاله وليم كيلي ذات مرة وهو كان يشغل منصب نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط, كان يقول هذا الرجل (لا تتحدثوا بعد الآن عن العرب,لم يعد هناك عرب,تكلموا عن عراقيين وسوريين,ولبنانيين,وبطبيعة الحال عن اسرائيليين بوصفهم جزءاً من الشرق الأوسط).
هذا الرجل المفعم بالتخابث والحقد يريد أن يشير إلى نظرية التفكيك وإعادة التركيب المطروحة بصورة سياسية وتربوية وعلمية بتطبيقاتها على الواقع العربي لعلنا نستذكر مقالاً لمهووس أمريكي آخر ينتمي للصقور الأميريكيين من المحافظين الجدد هو رالف بترز,حيث كتب مقالته المشهورة بعنوان الحدود الدموية,وللإمعان في تأكيد المعنى نشر المقالة في مجلة القوات المسلحة الأميركية, ومن معاني ماذهب إليه هذا الرجل اعتقاده بأن الحدود الدولية في منطقة الشرق الأوسط وافريقيا هي مشوهة وبأن معظم الجماعات السكانية هنا مخدوعة ولم تكن هذه الجماعات قادرة على اختيار كياناتها إلا في الآونة الأخيرة ,حيث لا بد من تبديل نسق الكيانات القديمة بنسق جديد أساسه العرق والإثنيات والدين والمذهب والعشيرة, عندها سوف يتبين سكان المنطقة أنهم ظلموا واستغرق الظلم حياتهم تحت وهم إنشاء الدول السياسية المعاصرة والتي يقع في أساسها أهمية الإنسان ووحدة الوجود واختيار مصادر العقل وبناء المصالح والاندماج في خط العيش المشترك.
واضح أن المعنى الأساسي هنا هو إطالة مفاهيم الشرق الأوسط الكبير أو الجديد بمستلزماتها من دوائر الصحوة على الروابط الضيقة والمحاور المتشنجة ,يريدون بلادنا مجموعات متعصبة تنقلب على ذاتها وتتنكر لتاريخها وتعتمد آلية الفصل والانفصال ثم تنتشي بما يشبه تأثيرات المخدر وهلوسة الإدمان بما زجت فيه من أزقة ضيقة ومسارب غضة,أردت من مجمل سياق الفكرة أن أنسب مستوى الفاعلية العربية الراهن إلى إحدى درجات القياس المصلحة في الحد الأدنى أو الدم والتاريخ والدور في الحد الأعلى.
لا بد من طرح هذه الآلية على الوجدان العربي ليكتشف الإنسان ذاته مدى الخراب والتخريب الذي يحصل في الواقع العربي ومدى الاستجابة المرة والمريرة التي تتعامل بها الأنظمة السياسية مع المشروع الاستعماري الكبير .
هناك وعلى مساحة أيام سوف يعقد مؤتمر القمة العربية العادي في دمشق ويبدو أن خطوة بسيطة اتخذها وزراء الخارجية العرب أعادت المشروعية والاعتبار لكي يطرح العرب ذاتهم ووجودهم على أنفسهم وعلى سياساتهم.