ظلت البدعة من نصيب فلسطين, وتاريخها وجغرافيتها, عاما بعد عام, وراحت الحقائق فيها تمّحي, والتزوير يسطع ويستطيل بشرعية دولية, ونفاق عربي, بلغا حدود المعصية.
كم احترقت أصابعنا, في الموقدة الفلسطينية, وكم احترقت أصابع فلسطين في نيراننا, التي أوقدناها على حدودها, في حروب النكبة والنكسة والاجتياح, ثم في تغريبة السلام التي عبرت الدم بأرجل مرتبكة, من نصوص كامب ديفيد ووادي عربة, إلى أوسلو, ومصيدة الاستقلال بلا سيادة, والتحرير من دون زوال الاحتلال.
ارتجلنا خطاب السلام, في وقت كانت فيه البدعة المجللة بالشرعية الدولية مازالت بحجم فلسطين كلها, والكيبوتز الصهيوني يمحو القرى والمدن الفلسطينية عن تخوم الجليل, وشجر البرتقال اليافاوي, يذبل في دخان مصانع السلاح الصهيوني التي تخترع كل يوم مبتكرات جديدة لقتلنا, وإبادة الشاهد الفلسطيني الباقي, على حقائق التاريخ الفلسطيني وجغرافيته.
بين العرب من اختطف قمح النصر في اكتوبر ,1973 ورماه في طواحين السلام في واشنطن, ثم استوى على منبرها وأعلن أن حرب أكتوبر هي أخر الحروب, وبين العرب من استشار حاشيته, وكلاب مضاربه, وخلص إلى أن البدعة صارت أمرا واقعا, وأن التاريخ هو في النهاية ذكرى, والجغرافيا تصنعها القوة لا حقوق البشر, والزمن كفيل بشفاء الجرح, حتى ولو كان بحجم المهبط السماوي في القدس, وبين العرب من عصيته الذاكرة,فلم ينسى, وتمرد عليه دمه فلم يفتر, فاستجمع إيمانه, واقترب من كرة النار بيقين لا تنال منه الأراجيف, وكأن حربه قد بدأت اليوم, فأشعل ناره من جديد, ليفكك مفاصل الرواية كلها!
نحن الآن إذن أمام رواية جديدة تجهد لتعيد نصوص التاريخ إلى مكانها (وحقائق الجغرافيا إلى مكانها) وتنتزع من الشرعية الدولية, شرعية الخيار الذي يؤسس لزمن تبتكر فيه حقوق البشر أسلحتها, وينتظم فيه الاستقلال على قاعدة السيادة وحرية القرار, ويتم إنجاز التحرير, بغروب الاحتلال, ورجوع شجرة البرتقال اليافاوي إلى خضرته, حين ينحسر دخان مصانع السلاح, وتعود إلى الجليل قراه المنقوشة في ذاكرة الفلسطيني الذي مازال يحمل في جيبه مفاتيح بيته القديم.
منذ الصبا, كان النشيد الأول لفلسطين, والكتاب الاول كتاب فلسطين والقصيدة الأولى لها, والتظاهرة الأولى, ودم الأهل على الثغور وأوسمة الضباط والجنود, وبرامج الأحزاب وخرائط النهضة القومية فمن سيكمل روايتها غدا.
(جنود البدعة التلمودية) أم من يقترب اليوم من كرة النار بيقين لا تمحوه الأباطيل, وكأن حربه قد بدأت اليوم, سباق تكاد لا ترى خيوله, وسط غبار يلف المنطقة كلها, فهل نفيق ذات صباح على مناد ينادي أن الراية, خفقت وجلت عن وجوهنا الغبار, وأن البدعة, سقطت بقوانين البدع, وأن حقائق التاريخ والجغرافيا أنهت تصفية حسابها الأخير مع الأوهام!.