يبحث في مدى تأثر المبدع بما يحيط به من أحداث وتقلبات، وعلى الهامش هناك سارد يتعامل مع أعلام الثقافة بوصفهم شخصيات روائية تتفاعل من خلال حدوتة يكسبها أسلوب كونديرا مذاقاً خاصاً وممتعا.
ويعد كتاب كونديرا «اللقاء» كتابا بانوراميا يحيي من خلاله بعضا من تأملاته القديمة في فن الرواية بالإضافة إلى تأملاته الجديدة المتعلقة بقضايا نظرية تمس نصوصا روائية ورؤى خاصة بالشعر والموسيقا والفنون التشكيلية،
ما يعكس شغفه الكبير بهذه المجالات لتشكل بمجموعها نافذة يطل من خلالها القارئ على عوالم متنوعة وثقافات مختلفة غير معروفة لديه على الأغلب.
كما يعبر هذا الكتاب عن اللقاء بين الماضي والحاضر، بين الغرب والشرق، بين الادب والموسيقا وهوايضا كما جاء على لسان الكاتب في مقدمة الكتاب، لقاء بين تأملاته وذكرياته الوجودية والجمالية وأحبته القدامى.
ويضم أيضا رصدا لمجموعة من اللقاءات بين ادباء وفنانين، شعراء ورسامين، شعراء غناء وموسيقيين، عرفهم كونديرا واعجب بهم وبأعمالهم الفنية.
يتحدث كونديرا عن الصعود الصاروخي للرواية في الغرب، مبرزاً مفارقة أن تاريخ هذا الجنس الأدبي لم يشهد هذا الذيوع والاهتمام في القرن التاسع عشر، قرن الرواية الأعظم، يقترب في هذا المفصل من واقع الثقافة العربية، فالرواية عندنا لم تعرف هذا الألق الراهن في حياة أبرز من أسسوا هذا الفن ورسخوه في ثقافتنا، الأهم من ذلك أن كونديرا يعلن من خلال مقالة نقدية يقرأ فيها مئة عام من العزلة لغابرييل غارثيا ماركيز، عن وصول الفن الروائي إلى نهايته، فرواية ماركيز الرائعة هي بمثابة وداع موّجه لحقبة الرواية.
ولكن أكثر ما يلفت الانتباه في كتاب كونديرا تلك الصراحة التي نصادفها ونحن نتجول بين موضوعاته المتعددة، حيث يعترف مثلاً أنه لم يقرأ أي كتاب للروائي الروسي ألكسندر سولجنتسين، ويعتبر أن رواية الأم لمكسيم جوركي والتي احتفى بها الكثيرون بوصفها النموذج المعياري للأدب الاجتماعي أضعف أعمال جوركي، ويضع التشكيلي هنري ماتيس ضمن فناني الدرجة الثانية.. إلخ، أيضاً تستوقفنا قدرة كونديرا على إعادة تقييم وجهات نظر كوّنها أثناء مراحل مختلفة في حياته، وأدى نضج التجربة إلى النقد الذاتي.
يتألف الكتاب من 9 فصول وكل فصل يتناول موضوعا مستقلا بذاته، وتشتمل هذه الفصول على بعض النصوص القديمة التي قام الكاتب بتحديثها لتواكب الرؤية الحديثة التي يحاول ايصالها إلى القارئ، بالاضافة إلى نصوص جديدة يتناول من خلالها قضايا روائية وايديولوجية تلتقي فيها ثقافات مختلفة ومتنوعة، لكنها تلتقي جميعها حول جوهر الادب بكل تفاصيله وعلاماته الفارقة التي استطاع أن يلتقطها من خلال مسيرة طويلة في الشأن الادبي والروائي وهومن ترجمة الدكتورة انعام ابراهيم شرف بصفحاته التي بلغ عددها 256 صفحة من القطع المتوسط.
وكم نتمنى أن يكون في كتابات معظم المثقفين العرب أيضاً ذلك القلق الناتج عن النقد المستمر للذات، بوصف هذه الأخيرة تتفاعل باستمرار مع متغيرات العصر من خلال أحدث أفكاره وتقنياته، وكأن التجربة لا تنضج، والخبرات المختلفة لا تضيف الشيء الكثير، التكريس هنا للذات والتي تخشى الاعتراف أنها عاشت لسنوات طويلة بعيدة عما اكتشفت لاحقاً أنه الأصوب، هوالتكريس المضاعف: للذات وللآخرين والذي لا يمكن للنقد أن ينتعش في وجوده.
ومن بعض النصوص نقتطف هذه الكلمات:
«لم احب يوما امرأة اواخا اوصديقا، كما احببت فيبوفي وسط الكثير من العذابات الانسانية، تصبح قصة هذا الكلب بعيدة عن أن تكون مجرد حادث عرضي أوفاصل وسط مأساة ما.... لم يملك الانسان يوما حرية اختيار ما سيكون عليه، قوة الاول تحد من حرية الثاني، لكن يبقى الانسان انسانا في مواجهة الحيوان، فوحشيته متحررة هنا والعلاقة بين الانسان والحيوان تشكل سريرة ازلية من الوجود الانساني ومرآة رهيبة لن يغادرها ابدا».