وانتهت بكارلوس حبيسا في السجون الفرنسية. كانت عيون (القاعدة) الوليدة تطارد الديبلوماسي في السفارة الاميركية, رجل المخابرات الاميركية كوفر بلاك, وكادت ان تقتنصه ايضا, في منتصف التسعينات, لكنه افلت, وتم نقله بعد ذلك من الخرطوم الى رئاسة وكالة المخابرات المركزية في لانغلي. تلك افادة الصحافي الاميركي جيريمي سكاهيل مؤلف كتاب
Blackwater: The Rise of the Powerful Mercenary Army: Worldشs Most 2007
ISBN 1560259795 Nation Books, New York, N.Y.
بعد 11 ايلول ,2001 كان كوفر بلاك هو الذي اشرف ونسق عمليات مواجهة الارهاب الدولي, وعهد اليه البيت الابيض تنفيذ خطة مطاردة قيادات (القاعدة), وعلى رأسهم اسامة بن لادن في كهوف تورا بورا في افغانستان. كان هو رأس الحربة في ادارة حملة (بوش) للقضاء على الارهاب الدولي.
بعد اكثر من ثلاثين عاما, غادر (كوفر بلاك) وكالة الاستخبارات, لا ليذهب الى بيته ويرتاح, بل ليلتحق بمؤسسة (بلاك ووتر) الامنية الخاصة في فبراير شباط عام 2005 في آذار عام ,2006 شارك كوفر بلاك في ورشة عمل شبه اكاديمية في الاردن, واعلن هناك ان مؤسسة (بلاك ووتر) ستكون على استعداد للمشاركة بقوات مخصخصة في قوات حفظ السلام ترسل الى دارفور, وان (بلاك ووتر) تقلب الامور للحصول على الاذونات اللازمة: اما من الامم المتحدة, او من »الناتو), او من حكومة الولايات المتحدة, وانها انخرطت في »لوبي) لتحقيق ذلك الهدف. ويقول جيريمي سكاهيل في مقابلة صحافيةان دارفور ملأى بمليشيات, وان اضافة قوات خاصة جديدة ستضيف تعقيدا جديدا الى الوضع هناك. ويقول سكاهيل ان الثري الاميركي »اريك برينس) الذي يدير »بلاك ووتر), هو عضو ناشط في الجماعات المسيحية التي درجت على تنظيم الحملات المعارضة للحكومة السودانية, مما يثير الشكوك حول نياته هناك. وتشير تقارير لمجلة »فيرجينيا بايلوت) الاميركية بتاريخ 17 كانون الثاني ,2007 الى ان مؤسسة »بلاك ووتر) انشأت شركة متفرعة عنها اسمها »جري ستون ليمتد), خطط لها ان تتخصص في تقديم الخدمات الامنية لعمليات الامم المتحدة الانسانية في مناطق النزاعات التي تنوي المنظمة الدولية التدخل فيها.
نشرت مجلة اميركية اخرى اسمها »فيرجينيان ريبورت) في 20 كانون الاول ,2007 ان مؤسسة »بلاك ووتر) في صدد الدخول في تعاقد لتقديم خدمات امنية في جنوب السودان, وان السيد ازيكيل لول جاتكوث الذي وصفته بأنه ممثل حكومة جنوب السودان في واشنطن, ذكر ان مؤسسة »بلاك ووتر) ستشرع في تقديم برامج تدريبية خلال اسابيع كانون الثاني — شباط 2007 في جنوب السودان, خصوصا ان الحكومة الاميركية قد رفعت قيودا جزئية عن شركات اميركية لتعمل في جنوب السودان.
لقد صارت خصخصة الجيوش من مكونات »عقيدة بوش), وهو يعلن حربه ضد الارهاب الدولي. ولكن ذلك استلزم بالطبع نظرا اكاديميا جديدا الى الموضوع, بل تعريفا جديدا لظاهرة »المرتزقة) و»القتلة المأجورين). فقد وضح جليا أن 11 سبتمبر — ايلول دشنت مرحلة تبدلت فيها المفاهيم, واختلطت فيها مفاهيم الخير والشر, وبدأت مقاربات مذهلة, بما يشككنا في ثوابت الحلال والحرام, وتباين اللونين الاسود والابيض. ولا بد من ان نلاحظ تلاشي الحديث في العقود الاخيرة من القرن العشرين, عن ظاهرة المرتزقة, اذ تكاد تخلو الادبيات السياسية في تلك الفترة من أي تحليل لهذه الظاهرة. أذكر شتاينر عندنا في السودان اوائل السبعينات من القرن الماضي, وبوب دينارد أواخر السبعينات, وهما من أشهر المرتزقة الذين أوغلوا في القارة الافريقية. هذان اسمان لمعا وعرفت شرورهما القارة الافريقية, قبل ان تطفح ظاهرة ما سمي الارهاب الدولي.
ثمة عوامل وظواهر تتصل بذلك, أعدد بعضها في ما يلي:
1 — لعل التحولات الكبيرة التي أعقبت ثورة الاتصالات واندياح المعلوماتية, كانت من العوامل التي قرّبت الامكنة واختزنت الازمنة, فصرنا نحيا عصر الشفافية الكونية, وشهدنا في مثالين حيين, كيف دارت حرب الخليج الاولى والثانية في شاشات الفضائيات ومواقع الانترنت, وتابعنا وقائعها لحظة اثر لحظة.
2 — درجت القوى العظمى, ولا سيما الولايات المتحدة, على ادارة الصراعات والحروب بأقل تكلفة ممكنة, ونأت قدر المستطاع عن اقحام جيوشها مباشرة في النزاعات التي تنشب بعيدا عن أقاليمها, وسعت في ذلك باستغلال حلفائها لإدارة هذه الصراعات بالوكالة (بروكسي) او عبر المنظمة الدولية, وخصوصا مجلس الامن, وبالريموت والتحكم عن بعد, والمثال الصارخ هو الحرب العراقية — الايرانية, ثم حربي الخليج الاولى والثانية, أما غزو العراق الاخير, فمساعي الولايات المتحدة جارية لجلاء القوات الاميركية عنه, طال الزمن أو قصر.
بعد أن وضحت الكلفة العالية للحروب المباشرة, ثم الحروب التي تدار بالوكالة, كان طبيعيا ان تجنح الادارة الاميركية الى الاستعانة بالقطاع الخاص »الموالي), فقد كان طبيعيا ان تترهل المؤسسة العسكرية الاميركية, بما افضى الى بروز مؤسسات عسكرية وأمنية خاصة,
لا تتبع الحكومة ولكنها مرتبطة تمام الارتباط بالمؤسسات الاقتصادية الكبيرة, مثل مؤسسة »بلاك ووتر) و»جري ستون) ليمتد, لتقتسم المخاطرة وكذلك كعكة المغامرة, صغرت أم كبرت. لم يكن القائمون على أمر هذه المؤسسة, ببعيدين عن دوائر القرار الاميركية الرسمية في الوزارات المهمة وفي الكونغرس. نشير الى ان نائب مدير هذه المؤسسة, هو السيد كوفر بلاك, منسق خطة ملاحقة الارهاب الدولي عقب 11 أيلول, والرجل الذي ألمح الى امكانية ضلوع »بلاك ووتر) بدور في دارفور. أليس هو ذلك الخبير الامني (ثلاثون عاما في المخابرات المركزية) الذي يعرف السودان ظاهرا وباطنا, مقيما فيه يلاحق بن لادن, وفاعلا مشاركا في اصطياد كارلوس, وتسليمه لاحقا الى المخابرات الفرنسية?
وهكذا فان تعقيدات الحروب الاخيرة, وفي ضوء هذه المتغيرات, استوجبت تحويرا رئيسا في طبيعة تكوين الجيوش, بما أفضى بالادارة الاميركية في العشرية الاولى من القرن الحادي والعشرين, وتحت هيمنة المحافظين الجدد, الى تعديل العقيدة العسكرية, وتوسعت لتضم بعض مؤسسات القطاع الخاص العاملة في المجال الامني والمرتبطة بالصناعات العسكرية, الى المؤسسة العسكرية الرسمية. وتقول التقارير ان كلفة عنصر الامن في اليوم الواحد تبلغ الف دولار أميركي.
وهكذا فان خصخصة القطاع الامني تتصل بشكل وثيق بمعالجة ترهلات المؤسسة العسكرية الرسمية, وكذلك بعمليات ضخ الدم في شرايين الاقتصاد والصناعة العسكرية الاميركية, وفي النهاية يصب في دائرة تنفيذ الاهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة. تحكي الاحصاءات عن موازنة بلغت 750 مليون دولار اميركي لمؤسسة »بلاك ووتر) في العراق, فقط لحماية الوجود الديبلوماسي والقيادات الاميركية هناك, منذ السفير الحاكم بول برايمر, الفضيحة الاخيرة (ايلول — تشرين الاول 2007) لمؤسسة »بلاك ووتر) وتجاوزاتها المريعة في العراق, وتورطها في المجازر واصطياد العراقيين الابرياء بدم بارد, تجعلنا نرفع حواجب الاستغراب والدهشة!
ينبغي ان نطرح سؤالا مشروعا: هل يكون في دخول مؤسسة »بلاك ووتر) تحت اسم »جري ستون) ليمتد الى جنوب السودان, أو هل تكون نيات هذه المؤسسة في الدخول الى دارفور, عبر ثغرة توفير الحماية الامنية للقوات الدولية, فيما اذا تيسرت لها الأذونات اللازمة, هي في مصلحة تحقيق الأمن والاستقرار في السودان? ويا لسخرية القدر. ترى أتفيدنا رمزية اللون ونحن في السودان الى كوفر بلاك و»بلاك ووتر?).