واقع تقنين يعني ترشيد استخدام .. وهو ما يفترض وجود استهلاك وصولاً لحدّ الاستهتار .
هنا .. الترشيد والتقنين وإن كانا في دائرة صيغ ( التفعيّل ) .. موجودان سلفاً ودون أدنى ( استهلاك ) .
إذاً هل تتوفّر المادة الثقافية وتفرض نفسها بقوة في زحمة وفوضى التلفزة المبثوثة على اختلاف أنواعها ومصادرها ..
قطعاً .. لا يخلو الأمر .. ولكن ما الهيئة التي تُقدّم بها .. ما القالب الذي تقولبت ضمنه فما عادت قادرة على التحرر منه والخروج عليه ..؟
غالباً .. لدى عرض برنامج .. انتبهوا .. كيف يُدرج تحت يافطة (النوع الثقافي) .. يُكبّل ضمن نوع مقسور ومقصور على هيئة إخراجية تعلّبه تعليباً ..
ما يُقدّم لنا علب استوديو مدهونة بقشرة ثقافية .. القشرة تأتي لجهة الأثر ، وليس من ناحية كم المعلومات والإضافات الثقافية المطروحة ضمن هذه العلب .
على العكس تماماً .. زمرة الضيوف وقبالتهم زمرة المقدّمين المحاورين .. ينشغلون باستعراض لعضلات الثقافة التي يمتلكها واحدهم .. كل منهم يشدّ البساط إليه ، وبساطهم لا يكاد يتّسع لهم .. فأين منه المتلقون ؟
لم يفطن القائمون على هذا النوع البرامجي .. إن متلقي اليوم لم يعد يكترث لوزن تسجّله تلك العضلات الثقافية ، بمقدار ما ينشد وينجذب للكيفية المعروضة عليه ..
هل فكّروا بالكيفية .. هل هناك من حاجة لوضع آليات لتسويق المنتج الثقافي مثله مثل أي منتج آخر ..
تسويقهم في هذا المضمار يفتقر إلى ذهنيات منفتحة قادرة على نشر وبث تطعيمات ثقافية بطرق لا مباشرة .. النتيجة ستكون أكثر جدوى وصولاً إلى ذهن المتلقي .
يطمئنون إلى تلك العلب ( الأستوديو ) وينسون أنها بجدران تكتم أصواتهم وكذا أفكارهم عن نبض الحياة العفوي التلقائي .
برامج مثل : مثير للجدل ، مع بروين ، قريب جداً ، روافد .. والتي تفرز بالعنوان العريض تحت النوع الثقافي .. تسوّق للثقافة وكما لو أنها ( حفنة معلومات ونقاشات ) يتم ذرّها في وجه المتلقي . على الرغم من أن هذه البرامج تتسم بشيء من مرونة أكثر من أخرى غيرها فيها من الجمود ما ينفّر ويقشّعر .
عقلية الفضاء العربي لم تزل بعمومها تعمل على مبدأ الترهيب بدلاً من الترغيب ..
بالمقابل .. يمكن تخديم الثقافة وجعلها منشورة بالطول والعرض .. من خلال أكثر الفنون إمتاعاً .
في الطرف الآخر من الكرة الأرضية .. سينمائياً .. يوسّعون أفق المعنى الثقافي .. يطعّمون أكثر وسائل الحياة رفاهيةً نفَساً وطعماً ثقافياً ..
على سبيل المثال : فيلم ( كازانوفا ) الذي كان ببطولة النجم العالمي ( هيث ليدجر ) .. يمكن التنبّه إلى الكيفية التي جاءت عبرها تفاصيله .. الأزياء ، هيئة الشعر ، العادات ، الأبنية .. كلها يتم الاشتغال عليها والعناية بها ، بحيث يصبح الفيلم وثيقة ثقافية عن القرن الثامن عشر الذي عاش فيه بطله .
والتساؤل : هل من فرق في التعاطي مع مفردات الثقافة بين هنا وهناك .. كيف يحدد مفهوم الثقافة قبل حتى تحديد آليات نشره ..
نحن نمشي وعلى ظهورنا علبنا الثقافية .. ننوء بحملها .. بجمودها .. بمباشرتها .. و عبوس شخوصها ..
الغريب .. إننا لا نقوى على مغادرة جدرانها نحو طرح ثقافي يتشبّع بحيوية الفكرة .. و لا يفتقد حرارة اليومي المعاش ..
نبقى نطمئن لمعلّبات بنكهة ثقافية .. دون حتى أن ننظر إلى تاريخ الصلاحية .. وإن حصل وسوّقنا يظل تسويقاً بأدوات محنّطة ..