إضافة لعرض مجموعة من لوحاته الكبيرة، التي تميزت منذ سنوات طويلة، بطريقته الخاصة في معالجة الوجوه وإبراز تعابير العيون والعناصر الإنسانية وأقواس وقباب العمارة الشرقية والشمس وغيرها، وفي كلتا التجربتين يعمل بتدرجات لونية متقاربة،
بحيث تطغى تدرجات اللون الواحد، على أجواء اللوحة الواحدة، في تفرعاتها التشكيلية المتفاوتة بين التلميح والتصريح، والمستمدة من آثار الدمار والخراب الذي خلفته الحروب الراهنة، وما تركته من آثار كارثية على المجتمع السوري.
فمن الواضح أن أعماله المعروضة، والسابقة أيضاً، تشكل حقلاً للمناخات اللونية المتقاربة، مع المحافظة على إبراز التشكيل الرمزي، في أحيان كثيرة، وهذه الطريقة توضح موقفه من الأحداث المؤلمة الراهنة، وتبرزه كتشكيلي ملتزم بقضية الإنسان في صراعه مع قوى الشر والتخلف والتطرف والرجعية من أجل البقاء والتقدم، وسبق وقدم عدة لوحات جدارية في هذا الاطار.
هكذا نجد فؤاد بو ترابة (من مواليد صلخد 1954 - محاضر في قسم الحفر في كلية الفنون الجميلة الثانية) متأرجحاً بين المشهد التعبيري(في لوحات الإكريليك والزيت) والتخييل الرمزي الذي يصل أحياناً الى ضفاف التجريد الجزئي، الذي لا يفقد صلته بالموضوع الواقعي، ونشاهد المرأة والطبيعة وإشارات الأبنية المتهدمة، والعناصر الأخرى. حيث يبرز أحيانا كتشكيلي إيضاحي (وخاصة في لوحاته الكبيرة)، ثم يتغير وينتقل نحو أجواء اختزالية تعبيرية ورمزية، ويتحول إلى تشكيل التكوين المستمد من تركيب أو تداخل عدة أشكال ورموز،
للوصول إلى مناخية خيالية تعكس تصورات وتكاوين الرسم الحديث، في خطوات معالجة الموضوع المستمد من واقع الحروب والكوارث والأهوال التي تشهدها الأرض السورية.
ألوان خطرة
ومن الناحية التشكيلية يعالج في هذا المعرض موضوعاته بألوان خطرة (وخاصة الأسود بتدرجاته وحساسياته المختلفة) وبطريقة تضمن حضور الجانب الفني والتقني، وهو يصل إلى لمسات أكثر حداثة واقتراباً من تقنيات فنون العصر، عن طريق أختصار الشكل الى أقصى حد، وتشفيف المساحة اللونية، بطريقة تعبيرية تنقل الحس المباشر الداخلي، بقدر ما تبتعد عن المشهدية الصالونية التجارية، بحيث يغيب الشكل الواقعي أو يتماهى في المساحة اللونية الشاعرية، وتبقى اشاراته الدالة عليه.
وهكذا يقدم لنا إيقاعات لونية تغلب عليها العفوية المطلقة، التي تتجاوز الرسم الواقعي التقليدي، وتعمل بالتالي على ابراز مساحة المشهد وأبعاده الداخلية، وتحول اللوحة في احيان كثيرة الى «كونتراست» لوني تعاكسي يتدرج بين الوهج والتعتيم.
انفعالات متنوعة
ويمكن القول: إن احتكاك فؤاد بو ترابة الدائم ونشاطه اليومي ومشاركاته المتواصلة، وسوى ذلك من نشاطات فنية، سمحت له بتقديم مساحات لونية مشغولة بحس عفوي مباشر، تحركه دائماً انفعالات متنوعة ترتد في كل مرة نحو الداخل والعمق.
كما أن ألوان العناصر والأشكال المعبرة عن واقع الحروب والأهوال، لاتأخذ لونها الأصلي، وانما تظهر برمزية وبمعالجة تهتم بمسألة إظهار اشارات الأشكال وظلالها. ونجد تحولاً من طريقة التركيز لإظهار شاعرية اللون، إلى طريقة استخدام الأجواء التي توحي بالتقشف اللوني (الأسود وتدرجاته) وهنا يصبح سطح اللوحة مجالاً للبحث التقني، ولحركة اللون الواحد، الذي يشكل منتهى عملية المشاهدة البصرية التعبيرية والجمالية والتقنية.
حساسية بصرية
وهو في ذلك يترك عمله عرضة لرياح التغيير التشكيلي والتقني، وهذا يظهر بجلاء في مساحات أعماله السابقة والجديدة، فحين تختصر اللمسات السريعة والمتلاشية أحياناً الأشكال الانسانية والمعمارية والطبيعية وغيرها، فإنما تختصر تداعيات ثقافة بصرية، أطلقتها عواصم الفن الكبرى، وتكشف تعبيراً ذاتياً، وتنقلنا إلى حالة شعرية أكثر عمقاً ودلالة.
وهذا يعني أنه يمتلك القدرة على الاختزال في تكاوينه التعبيرية والرمزية والتجريدية، ضمن معطيات المناخية المشرقية، مع إعطاء أهمية للجوانب التشكيلية الهندسية أحياناً، رغم أنه يكسر أطراف المساحة الهندسية، وهذا يعمل على ابعاد المساحة عن الدقة الرياضية الباردة، و يساعد في اكتشاف حساسيات بصرية مختلفة ومتفاوتة حتى في اللوحة الواحدة.
وهو بذلك يعمل على إيجاد نوع من الموازنة والمواءمة بين الجانب التعبيري المتمثل بتبسيط الأشكال وإبراز انفعالية اللون، وبين الجانب التجريدي، الذي يعمل من خلاله على معالجة المساحة، وإيجاد إيقاعات بصرية اهتزازية في اللوحة للوصول إلى أبعاد جمالية في معالجة اللوحة الملتزمة بقضية الانسان والوطن.
وما هو بارز في هذه الانفعالية، ابتعادها عن العبثية والعشوائية، إذ إن التكوين العام للوحة يأتي مدروساً وملطفاً، وبالتالي فهو يصل إلى فسحات بصرية مريحة لعين المتذوق، تؤكد اختمار علاقة الفنان بلوحاته المتجهة في هذا المعرض بالذات، نحو المزيد من التجريد والاختزال.
facebook.com/adib.makhzoum