بل على العكس, فقد زادت وتيرتها في الآونة الأخيرة وأصبح عدد القتلى الأميركيين يتجاوز العشرات يومياً أحياناً.
وحتى بعد انتقال السلطة إلى العراقيين واتمام الانتخابات التشريعية, والتي تشكلت على أساسها حكومة الجعفري المؤقتة, فإن كل ذلك لم يؤد إلى زيادة حدة الصراع, فلماذا تبدو العملية السياسية في العراق متعثرة? وهل تتجه بالفعل نحو الفشل?
كل ذلك يحدث رغم أن العراقيين موعودون بالديمقراطية والحرية ويحدث أيضاً رغم دعم الدول العربية لتهدئة الأوضاع في العراق ودعمها للحكومة العراقية.
كل ذلك يحدث والمقاومة العراقية تحقق النجاح تلو الآخر لزعزعة أمن قوات الاحتلال ولتعميق عدم الثقة بالشعارات الأميركية وبالعملية السياسية التي تتواصل في ظل هذه الشعارات.
ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد, بل وصل الأمر بأنصار الحرب الأميركيين والمباركين والمؤيدين لاجتياح العراق كمقدمة لتأسيس -الديمقراطية- للتشكيك بامكانية نجاح المهمة.
وهذا ما عبرت عنه الأدبيات السياسية الأميركية ووسائل اعلامها المقروءة والمنتشرة عالمياً على نطاق واسع مثل: (فورين افيرز (foreign Affairs و(الفورين بولسي foreign policy ) و(النيشن the nation )و(الواشنطن بوست the washing ton post )و(النيويورك رفيو اوف بوكس Newyork Review of Books ).
ولعل ابرز المشككين, المتحدث الثقافي باسم الحرب على العراق السيد توماس فريدمان, الذي كتب في احدى مقالاته مؤخراً ونشرتها نيويورك تايمز تحت عنوان -دعونا نتحدث عن العراق- حيث عبر في تلك المقالة عن مخاوفه الدفينة ولاحظ أيضاً أن الجميع في واشنطن لا يريدون الحديث عن العراق في هذه الأيام ويتحاشى المحافظون الجدد الحديث عن العراق لأنهم يعتقدون أن مهمتهم لا تتجاوز تمجيد وتفخيم كل ما تفعله إدارة بوش, أما الليبراليون فلا يريدون الحديث لأنهم في اعماقهم يتمنون فشل إدارة بوش.
إن محاولة الجميع تجنب الحديث عن العراق هي علامة على تسرب اليأس إلى داخل نفوس الإدارة الأميركية بزعامة المحافظين الجدد.
وعلى الرغم من أن -توماس فريدمان- يشك في امكانية تحقيق النصر في العراق, فهو الآخر ليس في مأمن من اليأس وبهذا الاطار يقول:(مازلت غير متأكد من امكانية تحول العراق إلى بلد ديمقراطي يعتمد على نفسه..قد يكون الوقت أصبح متأخراً الآن, لكن قبل أن نسلم بالفشل لماذا لا نحاول أن نفعل الشيء الصحيح?
والأكثر غرابة أنه يتساءل بعد مضي أكثر من سنتين على غزو العراق قائلاً: (ما هي استراتيجيتنا في هذه الحرب? لماذا لا ينظر إلى الموضوع من الزاوية الأخرى, لاتزال هناك استراتيجية لكنها فشلت.
سيكون أمراً مذهلاً أن تجتاح القوة الأعظم العراق بهدف تغيير المنطقة من دون استراتيجية والأكثر مدعاة للدهشة والذهول أن بعض أبرز مثقفي هذه القوة العظمى يتحمسون لحرب من دون استراتيجية ثم يتساءلون عن هذه الاستراتيجية لاحقاً.
والسؤال الذي يطرح نفسه مرة أخرى هو: لماذا يستمر تعثر العملية السياسية في العراق? ثمة ثلاثة أسباب:
أولها, السياسة الأميركية التي تتسم بمزيج من العنجهية والاستهتار في سلوكها وبالغموض في اهدافها. تبدت العنجهية في الدمار الذي ألحقته بالنجف والفلوجة العام الماضي, ولا تزال تلحقه في مختلف مناطق العراق.
ولا يقل عدد ضحايا المدنيين العراقيين على أيدي القوات الأميركية عن ضحايا الارهاب. أما الاستهتار فكشفته فضائح سجن أبو غريب, واخبار إهانة المصحف الشريف في سجون غوانتانامو, كل ذلك عمق من مشاعر الشك والعداء لدى العراقيين تجاه السياسات الأميركية.
فالوجود العسكري الأميركي في العراق ليس له أي شعبية يمكن الاعتماد عليها وما يزيد من عدم مصداقية الإدارة أنها تخفي اهدافها من وراء حربها على العراق.
لقد فقدت القوات الأميركية حتى الآن أكثر من 1800 قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى وانفقت على الحرب أكثر من 200 مليار دولار أميركي.
كل ذلك من أجل ماذا? ولأي هدف? فعندما نستمع إلى الرئىس الأميركي بوش أو الكاتب الأميركي فريدمان سيقولان إن القوات الأميركية جاءت إلى العراق في مهمة رسولية, هي تحويل العراق إلى نموذج للديمقراطية والحرية والرخاء الاقتصادي.
لكن السؤال المطروح هو: بماذا سيعود ذلك على الولايات المتحدة? الاجابة, لا شيء . والسؤال الأكثر أهمية هو: هل الولايات المتحدة لا تريد شيئاً من العراقيين?هل هذا معقول? الاجابة, طبعاً لا. والعراقيون يدركون ذلك جيداً.
السبب الثاني هو أن إدارة بوش اجتاحت العراق على أساس خطة لا يبدو أنها تستطيع تغييرها الآن فحجم القوات الأميركية المتواجدة حالياً في العراق غير كاف لضبط الأمن والاستقرار ومواجهة المقاومة واعمال العنف بعد سقوط النظام السابق, والمطلوب على الأقل هو مضاعفة هذا الحجم إلى أكثر من 300 ألف.
إن إقرار إدارة بوش بذلك يعني اقراراً بفشلها وفشل خططها لأكثر من عامين على الاحتلال وسيمثل هذا ضربة سياسية موجعة للإدارة داخل أميركا واعترافاً رسمياً بنجاح المقاومة في مهمتها النبيلة, وهوماً تريد الإدارة تفاديه بأي ثمن.
لكن عدم الاعتراف بذلك, يعني استمرار تدهور الوضع الأمني, ومعه تراجع فرص نجاح العملية السياسية وزيادة التكاليف الأميركية.
ثالث الأسباب وأخطرها, إن اعادة تشكيل النظام السياسي الجارية الآن ترتكز على عنصرين متناقضين: إن هذا النظام يجب أن يكون ديمقراطياً, على عكس ما كان عليه النظام السابق.
في الوقت نفسه يجب أن يعتمد على أسس تمثل جميع طوائف المجتمع العراقي. بعبارة أخرى يراد للعراق أن يستنسخ التجربة اللبنانية باعتماد نموذج -الديمقراطية التوافقية- وليس -ديمقراطية الأغلبية- ما يتم تجاهله هنا هو أن عملية الاستنساخ هذه لا تأخذ في الاعتبار الاختلاف بين الحالتين العراقية واللبنانية.
في لبنان, حصل تبني -الديمقراطية التوافقية- مع بداية تشكيل الدولة, وقبل خضوع طائفة لسلطة طائفة أخرى لم يكن هناك شعور بالهزيمة أو النصر لهذه الطائفة على تلك.
أما الحالة العراقية فهي على العكس من ذلك تماماً هنا يعاد تشكيل الدولة من جديد في ظل احتلال جديد وفي ظل هذا الاحتلال تعمد الإدارة الأميركية على اذكاء نار الخلافات بين كافة الطوائف العراقية وذلك بمناصرة طائفة ضد طائفة أخرى.
ويتم فرض هذا النموذج من النظام السياسي بواسطة استقواء طائفة بقوة احتلال أجنبي, وهذا ما يرفضه الشعب العراقي بأطيافه المختلفة.
وسط كل ذلك لم يبرز قائد سياسي وطني يلتف حوله العراقيون بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم.
هناك قادة دينيون يمثلون جميع الطوائف, ولا توجد قيادة سياسية مستقلة خارج اطار هذه الطوائف أو الانتماءات.
وغالبية المنخرطين في العملية السياسية يعتمدون بشكل رئيسي على مصدرين, إما الدعم الأميركي أو الدعم الطائفي أو كلاهما معاً وهذا اطار سياسي ليس في مصلحة العراق أو شعبه.
إن بناء الديمقراطية والتأسيس لاستقرار سياسي قابل للاستمرار يتمثل في تبني مبدأ علمانية الدولة وديمقراطية الحكم ومفهوم المواطنة المستند إلى الحرية والمساواة.وبدون ذلك, فإن القوات الأميركية ستبقى في العراق إلى أجل غير معلوم, ما يعني استمرار انزلاق العراق بشعبه ومقدراته باتجاه الهاوية.