إلا أن هذا الحلم أخذ بالتلاشي شيئاً فشيئاً بعد أن اتضحت صورة الحاضر والمستقبل، فما زال «المحافظون الجدد» يحكم بقبضته الساحة الأمريكية خدمة للمشروع الصهيوني أولاً وأخيراً.
لقد ظن البعض وما أكثرهم أنه مع قدوم الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض ستكون بداية النهاية لفريق المحافظين الذين حكموا واشنطن والعالم على امتداد ولايتي الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش لما كان لهم من نفوذ وتأثير وخاصة على السياسة الخارجية الأمريكية، لكن واقع الحال يقول اليوم وبعد مضي عشرة أشهر على تسلم الرئيس أوباما سلطاته الرئاسية إنهم باقون في مواقعهم ويحافظون على استمرار تنفيذ برامجهم وخططهم البعيدة المدى وأول من صدم بهذه الحقيقة هو الرأي العام الأمريكي نفسه الذي وجد نفسه اليوم أمام سياسات تلتقي كلية مع الفلسفة العامة للمحافظين الجدد في إدارة بوش السابقة وكأن انقلاباً من نوع آخر قد وقع بصورة تدريجية ولكنها ،سريعة كما يبدو للوهلة الأولى داخل الحزب الديمقراطي الذي وضع سكته تدريجياً على قضبان الخطط الاستراتيجية للمحافظين الجدد الذين يديرون الأمور بخفاء وتحت غطاء جديد في أروقة الإدارة الأمريكية الحالية.
وهذا الشيء لم يكن من مخيلة البعض بل إن الإدارات الديمقراطية الأمريكية السابقة ومجالس الكونغرس الديمقراطية المتوالية كانت حصناً واحداً للنفوذ الاسرائيلي وقد برز هذا النفوذ القوي والمؤثر للصهاينة ومساحة تأثيرهم على تلك الإدارات والمجالس الديمقراطية في تبنيها دون تردد مصالح اسرائيل وحماية أمنها والدفاع عنها وجعلها جميعاً فوق كل الاعتبارات، الأمر الذي جعل الحزب الديمقراطي الحاكم اليوم في أمريكا يؤكد من جديد نتائج تاريخ طويل من الارتباطات بالصوت اليهودي وتبنّيه المصالح الاسرائيلية وها هو اليوم هذا الحزب الديمقراطي يكرر التجربة نفسها ولا يقل من تأكيده على شدة ارتباطه باسرائيل وبالصوت اليهودي عن الحزب الجمهوري بقيادة المحافظين الجدد.
كذلك الحزب الديمقراطي الأمريكي وزعاماته التقليدية على امتداد العقود الماضية انضمت في حقيقة الأمر إلى طوابير المشككين في جدوى القانون الدولي ومؤسساته وهذا بالطبع أحد الملامح الأساسية للسياسة الخارجية للمحافظين الجدد اليوم، إذ سبق أن مارس هذا الحزب تشكيكه أكثر من مرة وهو في السلطة زمن الرئيس كلينتون بشأن العراق ثم الحرب الأمريكية الأطلسية لتمزيق يوغسلافيا السابقة وهم أنفسهم الذين يفضلون اليوم حلف الأطلسي على الأمم المتحدة ومنظماتها.
كما إن المحافظين الجدد داخل إدارة الرئيس أوباما الأكثرية منهم من بادر إلى كتابة رسالة شاملة للرئيس كلينتون عام 1996 يدعونه فيها إلى تطبيق مشروعهم من أجل القرن الأمريكي الجديد ونصحوا كلينتون من خلالها بأن ينتهز الفرصة ،فرصة أحادية القطب الأمريكي، لإنجاز هدف السيطرة الأمريكية على العالم وفي هذه الوثيقة قالوا إن كارثة مميتة من نوع الهجوم الياباني الانتحاري الصاعق على الأسطول الأمريكي في بيرل هاربور قد تكون ضرورية لإيقاظ الأمريكيين من سباتهم وفعلاً لم يمض وقت طويل حتى وقعت هجمات الحادي عشر من أيلول لعام 2001 ومعه بدأ المحافظون الجدد في إدارة الرئيس بوش تنفيذ مشروعهم الذي لم يجد وقتذاك الرئيس السابق كلينتون الجرأة لتبنيه .
إذاً أمن اسرائيل وحمايتها والدفاع عنها هي في صلب استراتيجية أي إدارة أمريكية وجعلها حتى في مقدمة المصالح الأمريكية ،وإلى اليوم الأمور واضحة والقناعة هي نفسها ولم تتغير أمريكا رغم أن جهود الإدارة الحالية فيها التي بشرت بوعود تغيير ما سرعان ما تراجعت عنها رغم اخفاقها وفشلها مع اسرائيل عبر مبعوث أوباما جورج ميتشل رغم جولته الثامنة إلى المنطقة ورغم تزايد الخسائر في صفوف القوات الأمريكية في العراق وأفغانستان لكن ذلك لم يثن من مشروع المحافظين الجدد في إقرار أكبر موازنة حربية لهم كي تكون الذراع الطويلة للبقاء على مشاريعهم الاستعمارية في قهر الشعوب والسيطرة على مقدراتها ولاسيما منها الشعوب العربية والإسلامية وتشتيت قواها وبعثرة قدراتها وإدخالها في دوامة مستنقع ليس له نهاية كما هو حال العراق وأفغانستان وباكستان وغيرهما .
إنه مشروع المحافظين الجدد الذي بدأ كي لا ينتهي إلا بإيقاع الهزيمة تلو الهزيمة فيه وقد تحقق ذلك مع ترنح المشروع في أكثر من جولة لأن إرادة الشعوب هي الأقوى.