ويمثل هذا الوعد خطأ فادحاً لأنه ألزم بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين في الوقت الذي لم يشكل فيه اليهود أكثر من 10 بالمئة من إجمالي السكان، وهو مامهد الطريق لقيام «اسرائيل» وأشعل الصراع الأعنف في العصر الحديث.
ويركز-جفري لويس- الذي كتب هذا المقال في صحيفة الواشنطن بوست وهو نفسه الذي ألف كتاب «بلفور ووايزمن الصهيوني والمتعصب القومي ونشوء اسرائيل»، على الدور الذي لعبته الشخصيتان الرئيسيتان في ذلك الوعد المشؤوم وهما- آرثر بلفور- و-حاييم وايزمان، حيث يصف -جفري لويس- وزير الخارجية بلفور قائلاً:« لم يكن بلفور عند النظرة الأولى، يبدو وكأنه من ذلك النوع من الرجال القادرين على هز الساكن وتحريك الأمور، وهذا يعود إلى نشأته الارستقراطية، ونمط حياته الهادئ المترف، إضافة إلى ماكان يتميز به من مسحة فلسفية تغلب على تفكيره ومظهره لدرجة ساء قول في ذلك الزمن وهو: «إذا كنت تريد لشيء ما أن لا ينجز فيجب عليك اعطاؤه لبلفور».
وبالرغم من كل ذلك كان بلفور من الذين يؤمنون إيماناً قوياً أن قضية الوطن القومي لليهود قضية استثنائية يجب إعطاؤها الأولوية على أي شيء آخر، حتى ولو كان هذا الشيء هو توق وشوق العرب إلى الاستقلال وحقهم في الحكم الذاتي وهو ما كانوا يأملون أن تساعدهم بريطانيا في الحصول عليه، كمكافأة لهم على ما قاموا به من أدوار حاسمة في مساعدة الجيوش البريطانية ضد القوات التركية، وكان بلفور يرى أنه ليس هناك ما يجبره على مراعاة مشاعر سكان فلسطين وأن هناك جذوراً مشتركة عميقة بين اليهودية والمسيحية المتصهينة، وأن هذه الجذور ذات أهمية تفوق بكثير رغبات السكان العرب الذين كانوا يعيشون في تلك الأرض القديمة.
أما الرجل الآخر في قصة ذلك الوعد المشؤوم والجائر والتي رويت مرات عديدة، فهو المتعصب -وايزمان- الذي كان يعمل محاضراً لمادة الكيمياء في جامعة مانشيستر، وكان رجلاً من طرازٍ مختلف، فقد كان مدافعاً عن الصهيونية، لدرجة أنه نجح في اقناع العديد من المسؤولين والشخصيات السياسية لبريطانية بالقضية الصهيونية.
وكما يرد في الوثائق التاريخية كان أول لقاء عقد بين بلفور ووايزمان في عام 1906، أي بعد ثلاثة سنوات من رفض الحركة الصهيونية لعرض قدم لهم بإنشاء وطن قومي في أوغندا، وبالرغم من أن اللقاء لم يستغرق أكثر من ساعة بين الرجلين، فإنه قد وضع البذور الأولى للوعد الذي صدر بعد 11 عاماً من تاريخ ذلك اللقاء المشؤوم وخلال ذلك اللقاء، أبدى بلفور استغرابه من رفض اليهود الروس للعرض المتعلق بأوغندا واصرارهم على أن يكون ذلك الوطن في القدس تحديداً، واحتد الجدل بين الرجلين، وأظهر بلفور عدم اقتناعه بوجهة نظر وايزمان قبل أن يقول له وايزمان: «ماذا تفعل لو عرض عليك أن تكون باريس مدينتك وليس لندن؟ فرد بلفور: «وايزمان، لكننا نمتلك لندن بالفعل» فعاد وايزمان ليقول:«ونحن كنا نعيش في القدس عندما كانت لندن لا تزال عبارة عن مستنقعات». وعندما سأله بلفور عما إذا كان هناك من بين اليهود من يقتنع بهذا الرأي، رد عليه وايزمان إن رأيه هذا يعبر عما يفكر فيه ملايين اليهود في أنحاء العالم، ما دفع وزير الخارجية البريطاني إلى ابداء استغرابه من ذلك لأنه كما قال، سبق وأن تبادل النقاش مع كثير من اليهود وكانوا يرون غير ما كان يراه وايزمان، فرد الأخير بأنه ربما قابل النوع الخطأ من اليهود. لم يكن -وايزمان- صادقاً فيما قاله، لكن أسلوبه في النقاش وقوة حجته كانا السبب في إلجام الوزير البريطاني.
لقد كانت الحقيقة كما يؤكد -جفري لويس- أن معظم اليهود البريطانيين لم يكونوا يؤيدون فكرة الحصول على وطن قومي في فلسطين ومن أبرز هؤلاء -ادموند مانتاجو- الذي كان يرفض فكرة أن اليهود يشكلون أمة متجانسة، وكان يرى أن إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين سوف يقوض نضالهم العادل من أجل الحصول على حقوق متساوية في البلدان التي يعيشون فيها.
إن رفض -وايزمان- القبول بأوغندا وإصراره العنيد على فلسطين جعل بلفور يوافق على إصدار ذلك الوعد الجائر الذي عرف باسمه والذي لعب دوراً خطيراً وحاسماً في تغيير مسار الشرق الأوسط إلى الأبد.