ومحمد مهدي الجواهري، وبدر شاكر السياب، ابتعدوا في مسيرتهم الحياتية عن نظم الشعر، واكتفوا بتذوقه، لاعتقادهم بأنهم لن يستطيعوا بأي حال من الأحوال ,مجاراة آبائهم أو التفوق عليهم، فيما قدموه خلال حياتهم لديوان الشعر العربي من غرر القصائد الخالدة, التي تمثل الكلاسيكية الجديدة في أبهى صورها النضرة، أو الحداثة الوافدة.
وفي هذا الصدد . نشير هنا إلى حالة أنموذجية تتعلق بأولاد السيّاب: غيداء هي البنت الكبرى وتعمل مهندسة كهرباء، وآلاء خريجة كلية الإدارة والاقتصاد، وغيلان الذي يعمل مهندساً مدنياً في الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك الحال عند ابن الشاعر «أبو ريشة» بل إن هؤلاء الأبناء. يخشون في قرارة أعماقهم، أن يقارن جمهور الشعر بين نتاجهم ونتاج من ينتمون إليهم بالأبوة، لذلك غلبوا على أمرهم، واكتفوا بترديد الحكمة التي تقول: رحم الله من عرف حدّه فوقف عنده».
لكن الشاعر محمد مصطفى جمال الدين لم يتوقف عند الديوان الأول، بل أصدر ديوانه الثاني تحت عنوان «همسات النوفرة» في حلة نضرة قشيبة، عند ذلك وجدت أن لقائي بالشاعر محمد يمنح فرصة طيبة ليحدثنا بعفوية عن والده الشاعر الكبير، الذي مرت ذكراه السنوية في 23/10/2009، فضلاً عن حديثه هو عن تجربته الشعرية ومشاريعه الأدبية التي هي قيد الإنجاز .
أين تقع التقدمية في شخصية والدك وشعره؟
كان مصطفى جمال الدين محط إعجاب الكثيرين لما له من مواقف تقدمية سواء أظهرت في شعره أم في شخصيته، كان واقعياً صريحاً متصالحاً مع نفسه والآخرين، مقتنعاً بآرائه جريئاً شجاعاً بطروحاته منذ شبابه.... أثناء وجوده في الجامعة النجفية لاحظ جمود المناهج الدراسية، فنبه إلى ضرورة تطويرها وتجديدها، فحشد كل طاقاته الفكرية واللغوية في قصائده، وانتقد نظام القبول ووضع نظاماً متشدداً للقبول حرصاً عليها من تسلل الانتهازيين للإتجار بالتراث والقيم، وقد لاقت دعوته صدىً لدى الكثيرين من طلبة الجامعة الدينية، وثارت ثائرة المتزمتين عليه، إلا أنها لم تثنه عن موقفه ولم تجعله يتراجع، بل صار في دعوته أوضح بيانا وأشد عنفاً:
هذي (المناهج) أطمار مهلهلة
مرت على نسجها الأحداث والعصر
وسوف يأتي زمان لاترون بها ...
إلا خيوطاً لهمس الريح تنتشر
وكان كثير الانتقاد للتخلف الاجتماعي، وكان يدعو إلى عدم الفرقة بين الأحزاب التقدمية في البلاد، وهو أول رجل دين وشاعر يدعو إلى تشكيل جبهة وطنية تقدمية، والذي يقرأ شعره أو نثره سيجد أفكاره: بالدين والديمقراطية وبناء الدولة والقومية وما إلى ذلك.
وقد وضع النقاط على الحروف في مقدمة ديوانه قبل أن يرحل، وبيّن مواقفه بكل وضوح.
هل كان ينظم على طريقة زهير بن أبي سلمى، أي في كل عام قصيدة؟
والدي لم يكن شاعراً وحسب، بل كان فقيهاً ولغوياً وعالماً وقد كتب بالفقه والأصول، والنحو، والبلاغة، والمنطق واللغة والعروض وكذلك الشعر لكنه اشتهر بالشاعر.
وقد سمعته في أكثر من مناسبة يقول : أنا شاعر مقل ويقول كذلك أحياناً: أنقطع عن كتابة الشعر لفترة قد تطول وأحياناً أكتب القصيدة في ليلة واحدة.
ولكن من يطلع على ديوان الوالد الذي يقع في مجلدين، المتضمن 120 قصيدة تقريباً موزعة على أربع مجموعات، عدا بعض الشعر الإخواني الذي لم ينشر، وبعض المسرحيات التي لم تنشر في أعماله الشعرية الكاملة سيرى المتطلع عكس ذلك القول.
صدرت طبعة ثانية من الأعمال الشعرية الكاملة، بما تمتاز عن الطبعة الأولى؟
امتازت الطبعة الثانية بإضافة مجموعة شعرية رابعة تتكون من 54 قصيدة، وقد كانت الطبعة الأولى تقع في مجلد واحد، أما الطبعة الثانية فقد صدرت بمجلدين.
متى بدأت رحلتك الشعرية؟
بدأت بكتابة الشعر في سن مبكرة، فكانت أول قصيدة لي «العيون المسافرة في 4/4/1969 يومها كنت في السادسة عشرة من عمري، بالطبع كانت لي قبل هذا التاريخ تجارب عديدة، بدأت بكتابة البيت والبيتين، لكن تأريخ «العيون المسافرة» اعتبره تاريخ اكتمال القصيدة عندي.
وأول قصيدة ألقيتها في حفل جماهيري كنت في السابعة عشرة من عمري، وهي بعنوان «الوطن الثائر؛ وأول قصيدة نشرتها هي الملاح التائه وكنت في العشرين من عمري، وقد ظهرت في مجلة «الهلال» القاهرية عدد آب 1973 وقد أثنى عليها رئيس التحرير، يومذاك، الشاعر المعروف صالح جودت.
كيف أفلت من قبضة والدك الشعرية؟
يعد مصطفى جمال الدين من كبار شعراء مدرسة النجف الشعرية، والتي سبقه إليها الشاعر الكبير علي الشرقي، وزميله الشاعر العملاق محمد مهدي الجواهري... وقد امتازت هذه المدرسة بالقوة وتوظيف المناسبة أحسن توظيف، أما قارىء شعري فيلاحظ أنني لم أتأثر بهذه المدرسة، وأنني استطعت الإفلات فنياً متمثلاً بقول الوالد:
يولد الشعر كيف شاء وتبقى الخمر خمراً مهما استجدّ الإناء
فإن اختلفت مع الوالد فنياً.... لكني أبقى امتداداً له.
لماذا تأخرت في إصدار مجموعاتك؟
تعتبر سبعينات القرن الماضي هي أنضج سنوات شعري، فقد نشرت العديد من القصائد في الصحف والمجلات... وفي الثمانينات والتسعينيات انقطعت عن الكتابة إلا ما ندر.... ولذلك عدة أسباب منها طبيعة عملي الوظيفي، ابتعادي عن الأجواء الأدبية والوسط الأدبي بشكل عام، لاسيما في سنوات مغادرة والدي وأفراد أسرتي خارج العراق، والظروف السياسية التي أحاطت بتلك الفترة، وانشغالي بعمل متعب ليست له علاقة بالأدب من أجل المعيشة، وأهم سبب هو الكسل والخمول لأن الشعر كأي نشاط فكري آخر يحتاج إلى عناد وممارسة وجهد... ،كل هذه الأسباب أدت إلى تأخري بنشر شعري.
ماالجديد عندك؟
أنجزت مجموعة شعرية ثالثة ستصدر في مطلع العام القادم ولم أختر بعد عنوانها، وكل شيء في حينه أخيراً ماذا عن مقارنة شعرك بشعر والدك؟
أذكر هنا ما أورده الناقد أحمد الثائر في جريدة «الإصلاح العراقية» الصادرة بتاريخ 3 أيلول 2009: « إن محمد مصطفى جمال الدين لم يتعكز على اسم والده الشاعر الراحل على الرغم من كونه يشكل امتداداً شعرياً يبتعد عن التوءمة، ، بل هو امتداد مغاير لشاعرية فرضت حضورها ..» وباختصار شديد... ليس شعري استنساخاً لشعر والدي وتجربته الأدبية والإبداعية.