ورغم ذلك، فقد تلقت الحكومة الفرنسية انتقادات كثيرة، في مقدمتها أن مبدأ حرية التعليم معرض للخطر، وكذلك فإن دافعي الضرائب هم الذين يسددون مصاريف الدراسة في نظام التعليم المجاني، وهذا يستوجب القول: «إن أطفال ماير دو روتشيلد سوف يربون على نفقة بوابه». وطبعاً، هذا أمر خطير، غذ كيف ستبدو العلمانية موفقة في تطبيقها عندما يكون روتشيلد، وهو أحد أكبر الأثرياء في العالم آنذاك، مستفيداً من أكثر الناس فقراً؟؟
العلمانية، بتعريف بسيط وأولي، هي الأنظمة التي تحترم حرية الضمير، أي أن الدولة ليست ملكاً لفئة من السكان، بل لجميع الشعب، من دون أدنى تمييز. وقد سبقت الولايات المتحدة الأمريكية كل الدول الأوروبية في محاولة تطبيق مبدأ العلمانية، إذ كفل التعديل الأول الذي أجري على الدستور الأمريكي «1791» الفصل بين الكنائس والدولة الاتحادية «وأكد أن لا وجود لأي دين رسمي مقرر، أي ذي امتياز سياسي». وفي المقابل كفل التعديل الدستوري نفسه الحرية الدينية المطلقة. وقبل ذلك، أي عام 1776 نص إعلان فرجينيا لحقوق الإنسان على ما يلي: «الدين أو العبادة المتوجبان تجاه الخالق، وطريقة القيام بالتزاماتهما، لا يجوز أن توجه إلا عن طريق العقل والاقتناع، وليس بالقوة أو العنف على الإطلاق. وبناء عليه، فكل إنسان يجب أن يتمتع بحرية الضمير التامة، والحرية نفسها يجب أن تمتد أيضاً لتشمل أسلوب العبادة الذي يمليه عليه ضميره».
الدولة العلمانية – كمفهوم سياسي – لا تمنح امتيازاً لأي ملة، أو لأي تصور للحياة الصالحة، في الوقت الذي تكفل فيه حرية التعبير عن كل منهما، ضمن حدود معينة. ولم تعد الدولة العلمانية تسعى إلى فرض وجهة نظر فئة من المجتمع على بقية الناس بالإكراه، بل تقوم على أساس الفكرة التي يكون بموجبها القسر السياسي غير مشروع بأي شكل من الأشكال. وهكذا، تكون حرية الضمير مؤكدة وسيادية. وهنا، على الدولة القيام بتمكين الضعفاء في التمتع بحريتهم، من دون أن تنحاز إلى مفهوم من الحياة الصالحة، وفي الوقت نفسه لا تسمح لأحد بفرض مفهومة الخاص على الآخرين. تتخلى الدولة عن استخدام العنف في فرض اتجاه رسمي للحياة، وتستخدم احتكارها لمنع الأفراد من فعل ذلك. فالدولة إذاً، عامل ضبط لها وللمجتمع، وهي بذلك تمثل مجموع الشعب.
يقدم غي هارشير في كتابه «العلمانية» قراءة تاريخية لمفهوم العلمانية وتطبيقاتها في دول أمريكا وأوروبا، ويستعرض كل المعوقات التي واجهتها العلمانية حتى بداية القرن الواحد والعشرين. جاء الفصل الأول من الكتاب عن العلمانية الفرنسية، وقد عاد هارشير إلى اللحظة التي انفصلت فيها فرنسا جزئياً عن الكرسي الرسولي، أي اعتباراً من عهد فيليب الجميل الذي حكم من 1285 حتى 1314، حيث تصدى هذا الملك للتدخل البابوي في الشؤون الفرنسية، مؤسساً بذلك عهد سياسة مستقلة عن روما. وهو ما أطلق عليه «الغاليكانية» التي تجلت فيما بعد بمرسوم بورج عام 1438 الصادر عن شارل السابع، والموجه ضد سلطة البابوات. وتتوجت الغاليكانية في عهد لويس الرابع عشر، إذ خرج إعلان إكليروس فرنسا عام 1682، والذي أشار إلى أنه ليس للبابا والكنيسة من سلطة سوى «على الأمور الروحية والتي تتعلق بالخلاص الأبدي، ولا علاقة لهما بالأمور المدنية والزمنية على الإطلاق». ويقول هارشير: «لا تعني الغاليكانية مباشرة وبالضرورة تقدماً «للعلمانية» بمعنى نزع الكثلكة عن المجال السياسي: فهي تقوم فقط على تجريد الديانة الكاثوليكية من أحد أبعادها السياسية، أي تبعيتها لسلطة سياسية أجنبية».
أحدثت الثورة الفرنسية تغيراً عميقاً في بنية فرنسا السياسية والاجتماعية، غذ وجدت الكنيسة نفسها خاضعة لتحكم الشعب، أي الدولة، ولم تعد الكاثوليكية دين الدولة، وأصبح الأساقفة والكهنة ينتخبون من قبل هيئاتهم المنطقية، حتى مرتبات رجال الدين صارت تحددها الدولة. ومع إلغاء الحقوق والامتيازات الإقطاعية وإعلان المساواة التامة بين جميع الفرنسيين، أرغم رجال الدين على التخلي عن ضريبة العشر التي كانت سائدة. ومع كل ذلك، فقد نادى إعلان حقوق الإنسان والمواطن في آب 1789 بالحرية الدينية «لا ينبغي لأحد أن يتعرض للإزعاج بسبب آرائه، حتى الدينية منها، شريطة ألا تخل المجاهرة بها بالنظام العام الذي أقره القانون».
تمت أول صيغة فصل بين الدولة والكنيسة في دستور السنة الثالثة 1795، والذي نصت المادة 354 منه على ما يلي: «لا يجوز منع أحد من أن يمارس، بما يتوافق مع القوانين، العبادة التي اختارها. ولا يمكن إرغام أحد على المساهمة في نفقات العبادة. كما لن تدفع الجمهورية أجراً لي منها». هذه الصيغة الأولى استبدلت عام 1801 بنظام «وئامي» واستمر حتى عام 1905. وقد نص النظام الوئامي على أن الكاثوليكية لم تعد دين الدولة، إلا أن الدولة كانت تقدم لها الدعم، وتسمي الأساقفة الذين كانوا يقسمون يمين الولاء للحكومة، ثم يمنحهم البابا فيما بعد الشرعية الكنسية لسلطاتهم الروحية. تنازلت الكنيسة عن أملاكها للدولة، بينما أخذت الحكومة تدفع مرتبات للأساقفة والكهنة، وسمحت بوقف الأموال لصالح الكنائس. لقد تحكمت الدولة بتنظيم الكنيسة وبنشاطاتها. خسر الدين موقعه المهيمن في المجتمع، ولم يعد يغطي كافة مجالات الحياة الإنسانية.
فصل قانون 1905 الكنائس عن الدولة ووضع نهاية للنظام الوئامي، ولم تعد الدولة تعترف بأي عبادة، ولا تدفع لها أجراً أو تقدم مساعدة مادية. ألغيت ميزانية العبادات، واختفت طقوس العبادات، ولم يعد رئيس الدولة يسمي الأساقفة. ألغيت المؤسسات العامة للعبادة، واستبدلت بجمعيات عبادة حددت بموجب قانون 1901، ما دفع البابا بيوس العاشر إلى رفضها، لأنها تطعن في مبدأ الهرمية في الكنيسة، بإيكالها السلطة إلى عموم المؤمنين وصغار الكهنة. غدت الكنائس كيانات خاصة، وبقيت حرية العبادة مكفولة، غير أن مظاهرها العلنية قد عُلمنت وخضعت للدولة.
أكد دستور 1946 على مبدأ الحياد والعلمانية، وجاء في دستور 1958: «فرنسا جمهورية علمانية. إنها تكفل المساواة أمام القانون لكافة المواطنين، من دون أي تمييز فيما يتعلق بالأصل، أو العرق أو الدين. وهي تحترم جميع المعتقدات».
بالنسبة إلى إيطاليا، باعتبارها مركز البابوية، فقد وقعت الدولة والفاتيكان عام 1984 معاهدة دينية جديدة، ألغي بموجبها اعتبار الكاثوليكية دين دولة. وأخذت الكنيسة تفقد سلطانها على الحياة الأخلاقية للأفراد، غير أنها حافظت على موقع قوتها في البلاد، بفضل الديمقراطية المسيحية التي عملت في الحياة السياسية، إلى أن سقطت عام 1992.
الكتاب: العلمانية
الكاتب: غي هارشير
المترجم: رشا الصباغ
الناشر: دار المدى، دمشق