يتوقف إلى جانب الكراسي الخارجية، وغالبا ما يجلس إليها الرجال، بقصد حماية امرأة تجلس إلى جانبهم،
يتسكع، وقد تدلت من عنقه شرائط عريضة، تنتهي إلى صندوق منبسط، غالبا ما يكون محتواه سلعا صغيرة ،الشوكلا والعلكة والحلوى، تلك الاشياء الخفيفة الحمل، تهدل كتفيه يشعرني و كأنه يحمل صندوقا من حجارة ينوء كتفاه تحت ثقليهما.
علكة شوكلا سكاكر ... يردد هامسا
ترتفع نبرة الصوت أكثر ألتفت إليه يبادرني
أستاذ» مشان الله ، الله يخليلك العروس ، يغمز لها بعينه انشالله تتجوزها أستاذ اشتري مني»
في كل مرة، كان يرى إلى جانبي فتاة غير التي رآها في المرة السابقة، وفي كل مرة ينظر إليها، متواطئا معي، موحيا لها بأنها الوحيدة التي ترافقني.
لم يكن يدري، أنني حينما أرغب في مشاهدة عرض سينمائي، أقف بين شلة من الأصدقاء والصديقات وأتوسل من يرغب أو ترغب المجيء،فوقت الدراسة مزدحم والامتحانات على الأبواب، وزمن الرومانسية ولى، لتقبل إحداهن مثل هذا العرض!
وكانت نظرته إلى بذلتي الرسمية، تشعرني بحرج شديد، وكأنه يقول:- أنت ثري كبير!
وسواء اشتريت منه أم لم أشتر، تمتد يدي إلى جيبي بتلقائية وسرعة، أخرج بعض الفكة أدسها في يده وأشير له بالانصراف.
أحببت طريقة تسويق بضاعته، لم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره، وكم خطر لي أن ألتقيه خارج دار العرض، عندما لايشاركني أحد الزملاء الحضور، وأنا مشحون بانفعالات مختلفة، لكنني في غالب الأوقات كنت أخرج ملتحفا معطفي مسرعا إلى أقرب سيارة أجرة.
كنت غريبا عن المدينة، وهنا في دمشق أستمتع بمشاهدة أكبر قدر من العروض، قبل العطلة الدراسية، عندما أعود إلى بلدي وافتقد هذا الطقس السينمائي.
أغلب دور العرض تقع، في شارع الفردوس قريبا، من شوارع فرعية وأزقة كثيرة، في بعض المرات لمحته يحوم حول المقاهي، له بنية ضئيلة الحجم وبشرة لوحتها الشمس، وكان أيضا، يتقاسم الشبه مع صبية آخرين يعملون مثله، لكنني أفضل أن اشتري منه سجائري، ربما أيضا لأنه يمتلك ابتسامة غامضة وملامح عصية على الفهم!.
اقتربت منه، فإذا به يتحدث إلى رجل هيئته تدل على أنه أحد الذين يعملون في المبنى الفخم الذي قيل إنه فندق خمس نجوم، وقد أخذ يكتمل ونحن نترقب افتتاحه،
حينما اقتربت منه كان قد ابتعد عن العامل، أمسكت بكتفه:
لديك سجائر؟
مد لي علبة مبتسما منتظرا، النقود همست له:
أتريد أن تعمل هنا في المبنى ؟ رأيتك تتحدث مع أحدهم؟
لا، بل أبي من يعمل هنا، فهو عامل كهرباء شاطر، استأنف مسرعا، هل تحتاج إلى رجل صيانة، والدي يقول إنه أفضل من يركب النجف ويصلح خيوط الكهرباء!
شكرته، وشعرت بأن فضولي لمعرفته ليس له سبب!!
هذا الصيف، قطعت إجازتي وعدت لاستكمال امتحانات الدور الثاني،مما تسنى لي وقت أطول لأتجول، قريبا من تلك المنطقة التي تنتشر بها دور العرض والمقاهي. واكتشفت افتتاح الفندق ذي الأحجار الرخامية البراقة، كان شاهق الارتفاع، وعلى أعلاه كتب بلوحة مذهبة «فندق الشام»
في إحدى الأمسيات، أخذت أمشي وحيداً وسئماً، بهرني المدخل الرخامي والواجهة الزجاجية الكبيرة خلفها رأيت المقهى، الذي يطل على الشارع، كانت كراسي المقهى محجوزة لكثرة الزبائن، وقد حل المساء ثقيلا محملاً بسخونة نهار صيف قائظ، قلت لنفسي: - فرصة أن أتناول قهوتي تحت هواء المكيف البارد الذي افتقده في سكني الصغير، حين دفعت الباب تسرب الهواء المبرد، تجولت بعينين زائغتين للبحث عن طاولة فارغة، عندما سمعت صوت زملاء لي سبقوني، أسرعت أجلس إلى طاولتهم، لم أتفحص المكان بل رحت أراقب إطلالة المقهى، على شارع ضيق تكثر أمامه محلات بيع الملابس النسائية المرتفعة الثمن، والمكاتب التجارية، وحركة المارة المزدحمة وهي تذهب وتأتي مسرعة ثم تتباطأ حركتهم قليلا، وهم يقتربون من أمام الواجهة الزجاجية الواسعة، تسترعي اهتمامهم أضواء مبهرة وفخامة باذخة، على الرغم من تردد نساء جميلات، ممن تتابعن، أحدث خطوط الموضة،إلى هذا الشارع للتسوق، لم يعد يدهشني بعد افتتاح الفندق، أن هذا السوق التجاري الحديث نسبيا كانت أسعاره باهظة الثمن!
كان رواد الفندق قلائل وأخبرني زميلي متهكما لإصراري، على ارتداء بذلة كاملة حتى في فصل الصيف:
- أن المطعم الدوار في أعلى الفندق لا يسمح بدخول الزبائن إلا بالبذلة الرسمية !! وهذا يعني استعدادك الدائم للتواجد في هذه الأماكن الفخمة، لا أحد يعلم كيف كان إصرار والدي منذ صغري على التميز عن أقراني وإجباري على ارتداء بذلة كاملة، حتى حينما صرت حرا من رقابته اكتشفت غربتي وأنا ارتدي قميصا بأكمام قصيرة فوق السروال.
كان الضوء المبهر في الداخل، مقابل عتمة الشارع إلا من أنوار المحلات المتناثرة، وانشغال الجرسونات بتقديم أفضل الخدمات لرواد المقهى في بداية الافتتاح، والانسجام مع الموسيقا المنسابة في الزوايا، مما جعل الأعين تغفل عن تسلل صبي أسمر، رشيق الحركة، على كتفيه حاملان لصندوق صغير ممتلئ ببضاعته من العلكة والحلوى وبعض أنواع السجائر المستوردة، رأيته ينتصب قريبا مني، أحسست أن وجوده مربكا لي، وكأنني المسؤول عن دخوله!! امتدت يدي إلى جيبي بحركة سريعة قبل أن ينتبه أحد العاملين في الفندق، مشفقا عليه،من طرده بقسوة، لم يتكلم وبدا كأنه في عالم آخر عيناه ترتفعان إلى أعلى، نظرت حيث يرنو كانت نجفة كبيرة الحجم تتدلى منها آلاف القطع الكريستالية تضيء المكان، فاغرا فمه وعيناه تسبحان في مكان بعيد، فيما كنت أنهض من كرسي كان صندوقه يميل من بين يديه وتتبعثر أشياؤه الصغيرة محدثة ضجيجاً وهو غارق في تأملاته !!
النادل الواقف بمحاذاة طاولة قريبة، استرعت انتباهه تلك الضجة، ركض نحوه، وبحركة سريعة، سحبته من يده إلى الشارع، لم يعترض على خسارة سلعه تلك بل التفت يسألني:
أستاذ. كم فيها من مصابيح تلك النجفة؟؟
وذاهلا أترقب اللحظة، التي نظر فيها، إلى صندوقه الفارغ فجأة، مدركا خسارة حلت به، ومن خلال الزجاج رأينا النادل، وهو يلملم الأشياء المتناثرة على الأرض، ثم يخرج، ويرميها، خارج الفندق. في صندوق للقمامة كبير.