كما تطول قائمة الجوائز التكريمية التي حصل عليها، إلا أن أهم ما يميز غالا في كل نتاجه الإبداعي والفكري هو ارتباطه الحميم بالحقبة الأندلسية ومكوناتها العربية, في السويات الثقافية والاجتماعية, منذ أول دواوينه الشعرية «العدو الحميم» سنة 1959، وحتى رواياته المترجمة إلى العربية «المخطوط القرمزي» 1990، و»الوله التركي» سنة 1994 وأخيراً «غرناطة بني نصير» التي أقام حفل توقيع لها في قاعة الأوسكار من برج الفردوس على هامش زيارته إلى دمشق، والتي تمت بدعوة من الدكتورة نجاح العطار نائب السيد رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية.
في الأمسية الثقافية التي أقامها أنطونيو غالا في مكتبة الأسد حيث قرأ أجمل قصائده عن سوريا، تحدث أولاً عن ذلك الطفل الذي «منذ أن عرف نفسه كان يرغب في معرفة دمشق» رافضاً أن تكون زيارته التي أعقبت زيارة رئيس الوزراء الإسباني «ثاباتيرو» إلى دمشق هي زيارة رسمية, قائلاً: «لا.. لا, عندي من الذكريات والهواجس ما يسمح للمألوف أن ينتصر على الرسمي» ويتابع بفضل حنين عبد الرحمن الأول .. أؤكد بأني لن أشعر بنفسي غريباً في سوريا، لأنني أذهب إليها واسم الأمويين في قلبي والوردة في يدي... أنها وردة قرطبة، تمرّت في مرآة ورود أخرى نائية، وأنا لن أفعل شيئاً غير أنني سأردها إلى موردها»
كما يُقر شاعرنا أن سوريا هي الأصل « فالمدن الأولى التي اجتمع فيها البشر لأول مرة موجودة هنا،عندكم تتبارى على شرف العراقة حماة ودمشق وحلب» ويتابع «رأيت رابية عمريت الحزينة, ابتسامة ماري الساحرة، قلعة الحصن، القلعة الجيولوجية التي لم يمنحها صلاح الدين غير حماماتها واسمه، الجلالة المبالغ بها التي تحيط بالعمود الذي عاش فوقه القديس سمعان أثنين وأربعين عاماً... رأيت ليل وفجر ومدرج تدمر القاسية... من هنا مرّت الآلهة ومضت، الواحد تلو الآخر، تاركة آثاراً ملموسة، فالبشر اخترعوا أسماءها وعباداتها... من كل ما رأيت وفوق كل ما رأيت احتفظت بقطعة صلصال صغيرة كسبابتي، فيها،وقفت متواضعاً أمام كتابتها الأوغاريتية العصية، وتعدد كتابتها المقطعية، فيها نُقش ثلاثون رمزاً، لا يوجد أكثر، بالكاد يوجد ثلاثون إسفيناً دقيقاً، فيها تكمن أبجدية العالم الأولى، وبالنسبة لشخص تقتصر حياته على الكتابة لا توجد روعة أعظم».
من هذه النقطة بدأنا حوارا مع انطونيو غالا الذي جاءنا حاملا سنواته الستة والسبعين وعشقا لمكونات ثقافتنا العربية, ولسوريا بكل مكوناتها, وقام الأستاذ رفعت عطفة مشكوراً بترجمة هذا الحوار:
• في حديثك عن الثقافة العربية نوع من الحب أو الشغف، متى بدأت تُحس أو تعي ذلك؟
•• عندما كنت طفلاً أذهب مع عائلتي إلى الكاتدرائية في المناسبات الدينية، كنت أبقى باستمرار منحازاً إلى الجانب العربي من هذا البناء، دون أن أنتبه إلى ذلك، فقط عند بلوغي سن الرشد انتبهت لهذه المفارقة، واكتشفت أن الجامع كان يشدني أكثر من الكاتدرائية، اكتشفت غواية العناصر العربية في نفسي، وقد انعكس كل ذلك الميل أو الشغف في كتاباتي لاحقاً.
الفترة الأندلسية بالنسبة لنا تعني الكثير، حتى أن أستاذ كرسي ألماني زارني منذ مدة مع خمسة عشر شخصاً من طلابه، وكان السؤال الملح: إذا ما كان يوجد إمكانية لبعث الأندلس مجدداً ! ربما لا تدركون أنه توجد قطاعات - وإن كانت ضيقة في إسبانيا- ما زالت تحلم بالأندلس كأهم لحظة في الثقافة الإنسانية، فهي بالنسبة للجميع أسبان وغير أسبان «زمن لا ينسى»، ابن رشد وابن سينا وابن قيمون في الثقافة العربية هم أجدادنا القرطبيون في الوقت ذاته، بل دعني أقول أنهم قرطبيون أكثر منهم عرباً أو أسباناً».
• اعتدنا أن تنظر الشعوب إلى فاتحي بلادهم كمستعمرين، بينما رؤيتكم للحقبة الأندلسية والوجود العربي في إسبانيا هي رؤية للجزء المشرق أو المضيء من تاريخكم؟
•• إنه كذلك، فنحن لا يمكننا تجاهل الحضور العربي في إسبانيا، ولا نسيان آثاره، ربما أنا امتلك مشاعر أو عواطف خاصة تجاه العرب أو ميلاً زائداً تجاههم، لكن الكثير من الأسبان ينزعون بهذا الاتجاه بدرجة أو بأخرى.
السرعة التي انتشر فيها الحكم العربي ووصل إلى الشمال، لا يمكن حدوثه لولا التعاون الإسباني، فالأسبان كانوا قد ملوا من القوطيين، بل توجد الكثير من الدلائل على أن الأسبان هم من استدعوا العرب إلى إسبانيا، وفتحوا لهم الأبواب، بالمقابل ربما تملك الشعوب عموماً نظرة عدائية تجاه محتليها، وتكون فخورة بحرب الاستعادة، أو التحرر من الاحتلال، لكن هل تستطيع أن تتصور أن حرب الاستعادة لدينا دامت ثمانية قرون؟
خلال هذه القرون الثمانية صُنعت حياة وحضارة وأمجاد ما زالت آثارها باقية أينما تجولت في المدن الإسبانية، وشيء طبيعي أن تفخر المدن برجالها وعظمائها، إلى أي عصر انتموا، لذلك يبدو من الطبيعي أن تجد تمثال عبد الرحمن الداخل شامخاً في مدينة المونيكب حيث حط رحاله أولاً.
هل تعلم أن كارلوس الخامس أمر بتحويل أحد المساجد إلى كاتدرائية، وكان العمل ما يزال جارياً بذلك عندما مرّ مصادفة في المكان، فقال حبذا لو كُسرت يدي قبل أن أكون وقعت على هذا القرار! بالمقابل عندما كنا نعيد تأهيل أحد الأديرة القائم في أعلى تل في قرطبة، في الذكرى الأربعمائة لبنائه، من أجل استيعاب المؤسسة التي أطلقتها للشباب المبدعين، توقعت أن أجد آثاراً أموية في هذا الدير، لكن خاب ظني, ولم نعثر إلا على آثار رومانية، لأن عبد الرحمن الداخل -كما عرفت لاحقاً- حين رأى تلك الكاتدرائية الرومانية في أعلى التل، فضّل أن يبقى على ضفة النهر احتراماً لهذا البناء واحتراماً للأديان.
وهل تصدق أن «سان أوليخيو» أسقف قرطبة، لم يعلم بالفتح العربي إلا في عام 850م, حين اكتشف وجود أتباع الدين الإسلامي ضمن مدينته, بمعنى انه كان يوجد تعايش تام بين السكان، وهذا الأمر يصعب شرحه أو توثيقه في إطار معادلات أو مفاهيم الاستعمار والاحتلال الأجنبي، لكنه كان حقيقة موجودة ومعاشة في تلك الحقبة الأجمل من تاريخ إسبانيا.
• لقد تغنيت في قصائدك بسوريا، كما لم يتغنّ بها شاعر سوري من قبل، ما الذي يأسرك في هذه البلاد، أهي الجغرافيا والطبيعة؟ أم التاريخ والثقافة؟
•• إنها الأشياء الأربعة مجتمعة، فأنا أشعر بنفسي مرتبطاً بقرطبة، تلك المدينة التي بنت عظمتها على 800 مسجد و600 حمام، وثلث مفردات لغتها القشتالية مصدرها من اللغة العربية، كل الكلمات التي تبدأ بحرف أو أداة التعريف العربية «أل» مثال: البيدر، البنّاء... وهي عموماً من أجل الكلمات في اللغة القشتالية، وما بين سوريا وقرطبة مسار من الحب، فالحب يبدأ في قرطبة أو غرناطة لكنه ينتهي في دمشق.
لو عدنا إلى قصور الزهراء, لاكتشفنا أي قصر آخر في أوروبا كقصر فرساي مثلاً، لا يصلح لأن يكون مطبخاً في هذا البناء. كما يروى عن أبي عبد الله الصغير أنه قال ذات مرة: القرطبيون لن يعانوا البرد الذي نعاني منه، لأنهم عملوا أقنية من المياه الساخنة في البيوت! فكيف يمكن لإنسان مثلي يعرف دلالات هذه الحضارة ويكتشفها أن لا يكون عاشقاً لسوريا، أو لحلم أندلسي، ذلك الحلم الذي كل ما فيه يعيدنا إلى سوريا؟
اليوم مرّرنا بآثار أو أطلال مدينة بصرى، وكان السؤال الذي يؤرقني لماذا يقوم التاريخ على نظرية الصراع مع الآخر وإلغائه، بدل أن يقوم على استيعاب الآخر والبناء إلى جانبه، لماذا لا نضيف إلى بعضنا بدل أن نلغي ذلك البعض، أو ندمره بصفته الآخر؟
• إلى أي درجة يجري الاهتمام حاليا بترجمة الأدب العربي إلى الإسبانية, سواء في كلاسيكياته أم الحديث منه؟
•• قبيل وصولي إلى دمشق زرت بلدة «وادي آش» وهي بلدة صغيرة تابعة لغرناطة، وتلقيت في زيارتي لها كتابين نقديين صدرا حديثاً لكاتبين في هذه البلدة حول كتاب ابن طفيل «طوق الحمامة».
وأنا أدون تلك الملاحظة لأقول أننا لا نكتفي بترجمة ابن رشد وابن طفيل وسواهم، بل نقوم بدراستهم وبشكل موسع أكاديمياً وثقافياً.
ولا يقتصر هذا الموقف على كلاسيكيات الفكر العربي، بل توجد ترجمات حديثة لأهم الأسماء العربية في مجال الشعر والقصة والرواية، ولا يوجد مثقف في إسبانيا لم يضطلع على أدونيس أو محمود درويش أو نزار قباني أو نجيب محفوظ... وتطول القائمة كثيراً.
لذلك أقول أنه عندما يكون هناك شيء مهم في اللغة العربية فأنه يترجم إلى القشتالية بالضرورة، وأرجو أن كان لدى البعض هنا عقدة من ثقافته المحلية أو العربية أن يسعى جاهداً للتحرر منها، فالثقافة العربية هي النبع الذي ننهل منه جميعنا في الغرب، وأي مثقف غربي حقيقي تراه يقدر الثقافة العربية كثيراً، ابتداءً من أبن رشد وانتهاءً بإدوارد سعيد.
• في تجربتك الإبداعية تنوع غني ما بين الشعر والمسرح والرواية وصولاً إلى المقال الصحفي، ما مبررات هذا التنوع في الصياغات التعبيرية؟
•• كل ما كتبت جنساً أدبياً اعتبره الشكل أو الجنس المفضل في لحظة الكتابة، فأنا أحب الكتابة، وأعرف أنني ولدت للكتابة، درست الحقوق، والأدب والتاريخ أيضاً لإرضاء أبي، لكنني كنت أعلم أن ما يخصني في هذه الحياة هو فعل الكتابة فقط. وعندما أقنعت أبي بذلك، لم أعمل أي شيء غير الكتابة، رغم المناصب الرفيعة العلمية والسياسية التي عُرضت عليّ، فأنا لم أقبل أن أكون غير رجل حرّ ومستقل يمارس الكتابة فقط.
لقد ولدّت كي أكتب.. وأنا أحقق ذاتي بذلك.