على رعاية وتشجيع الصورة الضوئيّة الفنيّة السوريّة والأجنبيّة، وتقديمها للمتلقي، عبر معارض فرديّة وجماعيّة، كعمل فني كامل الخصائص والمقومات الإبداعيّة الابتكاريّة البصريّة والتعبيريّة، يقف جنباً إلى جنب، مع العمل الفني التشكيلي كالرسم والتصوير الزيتي والنحت والحفر المطبوع، مع الإشارة والتأكيد، إلى وجود عدد كبير من الفنانين التشكيليين المعاصرين الذين يعتمدون على الصورة الضوئيّة، في إنجاز أعمالهم الفنيّة، لوحةً كانت، أم منحوتة، أم محفورة مطبوعة، وإلى دخولها كعنصر أساس، في التصميم الغرافيكي والإعلان وفنون الكتاب والإعلام المقروء.
تشجيع لافت
من مظاهر هذه الرعاية والتشجيع الحضور الدائم لمعارض التصوير الضوئي المتعدد التقانات في صالات عرض المراكز الثقافيّة السوريّة والأجنبيّة والخاصة، كذلك التظاهرات الدوريّة المكرسة لهذا الفن المجتهد، لعل أهمها وأبرزها، تظاهرة «أيام التصوير الضوئي» التي تُقام منذ عقود وتغطي معظم أيام شهر مايو «أيار» من كل عام، تشهدها في وقت واحد عدة صالات عرض في دمشق «وأحياناً في حلب».
تدعم هذه التظاهرة عدة جهات سورية وأجنبية منها: وزارة الثقافة، كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، المركز الثقافي الفرنسي، المركز الثقافي الألماني، وبعض صالات القطاع الخاص.
تشمل هذه التظاهرة إقامة معارض وورشات عمل، ومحاضرات تخصصيّة، تطول تاريخ وتقانات وإضافات ومستقبل فن التصوير الضوئي الذي ولد مع اختراع الكاميرا عام 1839 وتطور وتشعبت استخداماته التي شملت ميادين الحياة كافة، إضافة إلى طموحه القديم ـ الجديد، بالتماهي مع الأثر الفني التشكيلي التقليدي، بل والشعري والموسيقي، لا سيما بعد أن نبذته واضطهدته هذه اللغات الإبداعيّة العريقة، لعقود طويلة، وما زالت تنظر إليه حتى اليوم، بنوع من الدونيّة والاستخفاف، فتنعته تارة بالفن الآلي البارد، وتارة أخرى، بالحرفة، وفي أحسن الأحوال، تصنفه مع الفنون التطبيقيّة، لكن هذا لم يمنع فن التصوير الضوئي من النضال المستميت، لفرض وجوده الفاعل والمؤثر في جمهورية الإبداع، مثله في ذلك مثل التشكيل والموسيقا والشعر.
مسيرة راسخة
على الرغم من حالة الإقصاء والمحاصرة والتقليل من شأنها، تابعت الصورة الضوئية الفنيّة نضالها للانضمام إلى أسرة الفنون الجميلة، لكن مسألة الانضمام هذه لم تحسم حتى تاريخه، نتيجة وجود عدد لا بأس له من مزاولي الفنون الإبداعيّة التقليديّة، ما زالوا يرفضون إلحاقها بالفنون التي يشتغلون عليها، بحجة أنها آليّة وخالية من الإبداع، مُشيحين نظرهم عن الإنجازات الهائلة التي حققتها في الحياة المعاصرة، لا سيما دورها المحوري والهام، في وسائل الاتصال البصريّة الحديثة، التي حولت العالم إلى قريّة كونيّة صغيرة، رغم ترامي أطرافه، واتساع المسافات بين أقاليمه وقاراته، وثورة الاتصالات البصريّة هذه، أساسها وقوامها، الصورة الضوئيّة، وقرينة وجودها «الكاميرا».
يرى بعض الباحثين أن التصوير الضوئي المعاصر، اكتسب وضعاً نهائياً، يضعه في حقل الفنون الجميلة، لكن ثمة فروقات كثيرة بين «الصورة الضوئية» وبين الإنتاج المتسارع «للصور الإعلاميّة اليوميّة». إذ أن الأولى تتميز بكونها احتفظت ببعد رمزي ناتج عن أشكال الحداثة، والثانية تذهب إلى مقاربة سياسيّة توصلها إلى تخوم النوعي الوثائقي.
ويؤكدون أن التصوير الضوئي المعاصر، أصبح أحد الفضاءات المفضلة التي يمكن تطبيق التزام جمالي حقيقي فيها. وهذا ما يسعى إليه اليوم عدد كبير من الفنانين الضوئيين، باجتهاد لافت، لا بد أن يُتوّج بنتائج تعزز من مسيرة هذا الفن الذي أصبح يُحيط بنا من كل جانب. بل وأصبحت له مدارس ومعاهد وأكاديميات، تُعنى بتدريس تقاناته وأساليبه، وتعمل على مدرسة إنجازاته الفنيّة المتميزة، لاسيما تلك التي تحاول أن تقدم ما يشبه الرسمة، أو اللوحة، أو المنحوتة، أو المحفورة المطبوعة، أو النوتة الموسيقية، أو القصيدة المكتوبة بالأضواء والظلال، ذلك لأن الصورة الضوئيّة الفنيّة لم تكتف بدخول متاحف وصالات عرض الفنون التشكيليّة، وفرض وجودها في مجالاتها التخصصيّة، وأبحاثها النظريّة، وإنما أخذت مدارسها واتجاهاتها، واشتغلت عليها، بحيث يمكننا الحديث اليوم، عن صورة ضوئيّة كلاسيكيّة، وواقعيّة، وانطباعيّة، وتأثيريّة، وتنقيطيّة، وتكعيبيّة أو سورياليّة، وتجريديّة ... والأمثلة على ذلك كثيرة ومتوفرة وترد بشكل يومي، إلى صالات العرض، والمجلات، والكتب، والتلفاز، والإنترنت، ووسائل الإعلام والإعلان المختلفة. بعض هذه الصور يُنفذ مباشرة على أرض الواقع، لحظة تجلي الحالة بشكلها الطبيعي، وعناصرها الواقعيّة، وبعضها يُركب في «الأستوديو» أو المحترف، ثم يقوم الفنان الضوئي بتجميدها في لقطة أو لقطات. بعضها الثالث، يُنجز بتقنية «الفوتومونتاج» أي بإدخال صورة على أخرى، بعد دراسة مستفيضة، لناتج هذا التوليف والتأليف البصري شكلاً ومضموناً، تكويناً ودلالةً، عناصر وإيحاء، والأفق «كما يبدو» لا زال رحباً ومفتوحاً، على المزيد من الكشوفات المتتالية المدهشة، أمام فن التصوير الضوئي.
أراء ومواقف
اختلفت الآراء، وتعددت المواقف، تجاه الصورة الضوئيّة. فهي بالنسبة لـ «بارتيه» تختلف عن الرسم، لأنها عمل تسجيلي خالٍ من أية إشارة، وهي خادم مخلص للطبيعة، ولأنها تسجل المشهد بشكل ميكانيكي، بينما الرسم هو عبارة عن إشارة ورمز غير طبيعي، يلمح إلى وجود الأشياء. والرسام يستطيع التدخل في تركيب المشهد، فيحمّله معاني إضافية. أما الرسام الفرنسي المعروف «دولاكروا» فيرى أن التصوير الضوئي هو أكثر من نسخ، إنه مرآة الشيء، والتفاصيل التي لا نجدها في الرسم العادي، وكانت مهملة، تظهر بفضل آلة التصوير. وبفضل معاني هذه التفاصيل يصل الفنان إلى المعرفة الكاملة لبناء الشيء. إن الظل والنور يحتفظان بالصورة الضوئية بكامل حقيقتهما. أي بدرجة قساوتهما أو عذوبتهما. كما يجب ألا ننسى أن التصوير الضوئي يعتبر كمترجم يساعدنا على الغوص بعمق في أسرار الطبيعة.
أحد الفنانين التشكيليين يرى أن التصوير الضوئي اليوم أصبح قادراً على إعطاء صورة صادقة عن الواقع، وإلا فإن مبدأ الصورة الشخصية بالتعريف على الأشخاص وإعلانات الصور الانتخابيّة وصور ممثلات السينما غير صحيح. لهذا يمكن القول أن الصورة هي إشارة طبيعيّة وليست إشارة تعسفيّة خالصة، لأنها تستخرج معناها من الشيء المشخص.
لقد حاولت الصورة الضوئيّة الحصول على صورة طبق الأصل، وتطور تكنولوجيا فن الحفر والطباعة على مدى 170 عاماً، إنما سعى للحصول على رصد الواقع بدقة، وإعادة تشخيصه دون تحريف. إذن فن الكليشة والتصوير الضوئي قائم على تكرار إشارات الصورة نفسها.
أما «غوتيه» فيرى أنه في هذا الوقت، حيث يعجب التصوير الضوئي العامة، لدقته الآلية في النسخ يجيب الإعلان في الفن عن اتجاه حر وجامح. لقد أصبح من الضروري التحرك ضد الآلة العمياء. لهذا قام مجموعة من الحفارين بالماء الثقيل بجميع مواهبهم، بعد أن أزعجهم رؤية الجدران مغطاة بصور عادية خالية من أي روح. إن جمعية الحفر بالماء الثقيل تأسست من أجل محاربة التصوير الضوئي والحفر المنتظم والآلي الخالي من الإلهام، والذي يشوه فكرة الفنان.
ويأسف «بودلر» لانحدار الذوق العام عند الناس الذين أحبوا كثيراً التصوير الضوئي. هذه الطريقة التي تبهر أعين الجمهور الذي لا يفهم الشيء الكثير بالفن. هذا الجمهور الذي يحب الآلة التي تعطي صورة طبق الأصل. لقد استعاض الجمهور عن اللوحات الأصليّة بصورة طبق الأصل عنها. لقد أصبحت الصورة الضوئية المتحف الجديد للناس، وملجأ للفنانين الفاشلين الكسالى الذين لا يملكون أية موهبة، والذين يتكاسلون عن إتمام عملهم.
ويؤكد «بودلر» أن على التصوير الضوئي أن يقوم بوظيفته الحقيقيّة ألا وهي خدمة العلوم والفنون. أي أن يخدم الطباعة والنسخ اللذين لا يتطلبان أي إبداع، بل عليهم مرافقة النصوص الأدبيّة.
ويذهب «شاميغلوري» إلى القول بأن مكنة التصوير الضوئي بدون روح، وإن عمل المصور الضوئي هو عمل ميكانيكي بحت. وهذا ما دفعه إلى التحذير من خلط الصناعة مع الفن. ويؤكد على ضرورة أن تبقى الصناعة في مكانها، وألا تُقبل في معهد أبولو المخصص فقط لخدمة الفن الإغريقي والروماني.
وبما أن التصوير الضوئي يتلخص بمجموعة عمليات تتطلب بدون شك بعض المهارة اليدويّة، لكن الصور الناتجة عنها لا يمكن اعتبارها ولا بأي شكل كان عملاً فنياً، لأن الفن هو من ثمار الفكر والدراسات الفنيّة.
في المقلب الآخر
بالمقابل، رفض «دولاكروا» و»زيغل» مثل هذه الآراء السلبيّة في التصوير الضوئي الذي بالإمكان بفضله، اكتشاف أسرار الطبيعة. في البداية، رفض «دولاكروا» اعتباره فناً، لأنه لا يعكس فكر الإنسان، وكان ضد التكنولوجيا الصناعيّة، والتصوير الضوئي كتقنية ميكانيكيّة ليس فيها روح، وغير قادرة على نقل الإحساس والعاطفة الإنسانيّة. لكنه عدل عن رأيه هذا فيما بعد، إذ ذكر أنه رسم لوحته الشهيرة «المرأة الجزائرية» نقلاً عن صورة ضوئية في العام 1850، وأشار في إحدى مقالاته إلى أن التصوير الضوئي أكثر من نسخ. بل هو مرآة الشيء. إن التفاصيل لا نجدها بالرسم العادي، والتي كانت مهملة، تظهر بفضل مكنة التصوير، وبفضلها يصل الفنان إلى المعرفة الكاملة ببناء الشيء.
أفق مفتوح
هذا السجال المفتوح حول أهمية الصورة الضوئيّة وماهيتها وقربها أو ابتعادها عن الفن الحقيقي، ولغة التعبير الراقيّة، والذي رافق ولادتها ولا زال قائماً حتى تاريخه، سوف يبقى مستمراً في الأيام القادمة، مثله في ذلك مثل ماهيّة الفن الذي كان ولا زال الجدل حولها قائماً، وفي ذلك، تكمن حيوية الفن وغناه وإبداعه الذي لا يمكن أن يركن في أفق محدد، بل هو دائم التطلع إلى آفاق جديدة، يجددها ويتجدد فيها.
قد لا تصل الصورة الضوئيّة إلى مصاف اللغات الإبداعيّة الراقيّة كالرسم والشعر والموسيقا، أو تُقبل كعضو أصيل في جمهوريّة الإبداع، لكنها ستبقى مسكونة بهذا الهاجس، ما دامت تُقاد من قبل مواهب خبرت جيداً قدراتها، وتمكنت من أسرارها، وقادرة على الاستفادة من التطور المذهل والدائم لوسائل إنتاجها وتعميمها، وتوظيف ذلك لصالح الارتقاء بقيمها الفنيّة والتعبيريّة.