في شتاء 1939-1940، تلك الزوجة، التي جرينا بعد ذلك على أن نناديها «خالتي»، وضعت بعد عام مولودها الأول، فأصبحت تُعرَف عند الأهل بـ»أم نادر» كما عُرفت أمي قبلها بـ»أم فاضل».
هل أقول إنّ الزوجتين-الأُمَّيْن، نزلتا في سباق؟ وقد ظللتُ زمنًا أتندَّر في حديثي عن حكاية الإنجاب في بيتنا، فأقول لأصدقائي إنّ إحدى الزوجتين في الدار إنْ «وضعت» يوم السبت مولودًا، فإنّ الأخرى «تحمل» يوم الأحد! وإذا كانت أمي قد أضافت إلى أولادها الستة الأُوَل ولدين اثنين «طارق وزياد»، فإنّ خالتي استطاعت أن تصل بعدد أولادها إلى أحد عشر. والذي كان، أنّ الإنجاب أكل عافية خالتنا «أم نادر»، فغادرتنا وهي في عزّ الشباب. ولن أسترسل فأتحدث عن أنّ أبي تزوج بعد رحيلها زوجةً ثالثة جاء بها من حمص، فهذا خارج عن السياق!
ولكني أقول: إنّ أخي نادر حَظِي -بصفته الابن الأول للزوجة الثانية- منذ طفولته بالعزّ والدلال. ولم أتوانَ -أنا ابن العاشرة أو نحوها- عن أن أتسلّل إلى غرفة الخالة، فأداعب أخي وأغنّي له: «نقطة زيت بكفّي..»، وأمي في غرفتها «تفور» من الغيظ!
في النعيم الذي رَفَلَ فيه أخي الصغير، قصّر في دراسته مدّةً، قبل أن يستأنف شديدَ العزم، وانتسب «في عام 1970» إلى كلية الآداب بدمشق. وقد أهَّلته دراسته للفلسفة لأن يستوعب حكاية «الحداثة» في الأدب والفكر. وعامَ عاد إلى الوطن ابنُ عمّتنا منذر عياشي «1985»، متزوِّدًا بمؤهِّل الدكتوراه في الآداب من جامعة «إكس آن بروفانس»، ظلاّ يتلازمان بحلب، وكان بينهما من المحاورة والمناظرة وتبادل الآراء، حول الألسنية والبنيوية والأسلوبية، ما أغنى ثقافة أخي نادر وزاد في إبداعه، فتألّق في مجموعته القصصية الرابعة «الغابة النائمة»»1993»، وارتفع بها إلى مستوى جعلها جديرةً بأن تترجم إلى الفرنسية «باريس عام 2003»، وأَتبعَ ذلك روايتَهُ الأولى «السبع الأشهب» «1999» وزادها جزءًا ثانيا سمّاه «الطيّب» «2009»، ثمّ علمت أنه تابع مشروعه الروائي الكبير هذا، فكتب جزءًا ثالثا أكمله مخطوطًا عدا فصلين أخيرين... ومضى إلى دار الخلود. وقد ضمن لثلاثيّته المتميّزة الخلودَ في عالم الآدب.
وحتى لا أظلم نفسي، أُبيّن -وأنا الذي كتبت الشعر والنثر منذ كنت طالبًا في «التجهيز الأولى-ثانوية المأمون» بحلب- أنّ إعجاب الفتى نادر بأخيه الأكبر قارئًا وكاتبا، قد حبَّب إليه الأدب، وأولُ الأدب المطالعةُ الجادّة. وأذكر ما كنت أحمل إليه من الكتب من بيروت، التي أكثرت التردُّد عليها في الستينيات، فكان يلتهم الكتب قراءةً، ويتأسّى به أخوته في البيت، زهير وحسان وماهر وسليم وعصام. ثمّ بدا أنه احتاج إلى سنوات أطول قبل أن يتأتّى له أن يمسك بالقلم كاتبًا، فأخرج للناس مجموعته القصصية الأولى «أقنعة من زجاج» «حلب 1980»... إلى أن أيقظ بعد بضعة عشر عاما «الغابة» من نومها، وبعدئذ اتّخذ من شخصية جدِّنا «سليم السباعي» «القادم من حمص إلى حلب إبّان حرب السفر برلك 1915» بطلاً لروايته الأولى «السبع الأشهب»، وكان علينا ألاّ نفاجأ بنَيْلِها إحدى جوائز الأدب العربية، فقليل من الأعمال الروائية كُتب بتلك الصيغة الإبداعية المتألّقة.
أحبّ أن أقول إن أخي نادر عُرف بين الناس بابتسامته الحلوة، وصوته الدافئ، ودماثته التي يلحظها فيه عارفوه، ولقد كان -رحمه الله- قادرًا على عقد صداقاتٍ أعجزُ أنا عن فعل مثلها، وقد عمّت صداقاته في موطنه حلب وحيثما ارتحل وحلّ في العواصم العربية، وكان يبادر إلى عقد الصحبة مع الشباب والشيوخ جميعا، وإن كان يخيِّم أحيانا على الحميمية فيها ما يعكّر الصفو. وقد عرفته محبًّا للناس، وكان في حبّه لهم يتبرّع بتأدية الخدمات الأدبية، وأذكر حَدْبه على رائد القصة السورية مظفّر سلطان وهو في شيخوخته البيضاء، وأَخْذَهُ بيده في نشر قصصه في المجلات العربية، ثمّ في نشره أخر مجموعاته «رَجْع الصدى» «اتحاد الكتاب العرب 1985».
واسمحوا لي أن أُبيّن أنه كان معجبًا بأخيه الأكبر، وفي ذلك كان يتأسّى به ويتتبّع خطاه، مع حرصٍ منه على التحفّظ في الإفصاح عن ذلك! إنّ توقيعه -حتى توقيعه- يشابه توقيع أخيه! وفي تأثّره به، قارئًا للأدب ثمّ كاتبًا مبدعا، تطلَّع إلى أن تكون روايته الأولى «السبع الأشهب» موازيةً في ذيوع الصيت لروايتي «ثمّ أزهر الحزن» «1963»، ولعله حقّق شيئا من ذلك. وعندما أصدرتُ، في عام 1990، تحت اسم الدار التي أسستُها بدمشق، عددًا من أعمالي، بادر -بشراكةٍ مع ابن عمّتنا منذر- إلى تأسيس دار للنشر بحلب، سمّياها «مركز الإنماء الحضاري»، قبل أن يستقلّ أخي بها. وأعترف بأنه سبقني في مضمار النشر، فما قدّمتُه مطبوعًا حتى اليوم من أعمالي ومن كتب للآخرين لم يبلغ الأربعين عنوانا بعد، وأظنّ أنّ ما نشر هو زاد على المئة. وقد دأب على المشاركة في المعارض العربية حتى لا يكاد يدع واحدًا منها، ووصل في مشاركاته إلى عاصمة النور باريس عام 2001.
هل أقول إنّ تكاليف الحياة أبهظتْه، فقد كان يتولىّ وحده النشر، والتوزيع، و... التأليف أيضا، وينجح في هذه المجالات كلها؟ وهل أقول ثانية: إنّ أمّه، خالتنا أمّ نادر، أضناها الإنجاب، وإنّ أخي نادر قد عمل وسهر وجاب الأقطار والأمصار حتى الضَّنا، وقد خلّف كلُّ منهما ما يستحقّ التوقُّفَ عنده، ومع الوقوف الانحناء، أمام العطاء الإنسائي الذي قدّمتْه الأم وبه تستمرّ الحياة، وأمام العطاء الأدبي الذي قدّمه الابن وبه تَجْمُل الحياةُ وتَطِيب.
لم يكن نادر السباعي عصاميًّا في نشأته، فقد ولد وفي فمه ملعقة من... فضّة. ولكنه كان عصاميًّا حتى النخاع في حياته الثقافية والفكرية: كافح وناضل، قراءةً وكتابة، حتى أبدع ما هو جدير بالبقاء، وناضل ناشرًا عصاميًّا، واجتهد في أن يضع الكتاب في مضمونه الحداثيّ بين أيدي القراء، في كلّ العواصم التي زارها مشاركًا في معارضها مرة ومرات.
أقول: كان الشاعران أحمد شوقي وحافظ إبراهيم، يتمنّى كلُّ منهما أن يموت قبل الآخر ليحظى بقصيدة رثاء منه. وقد قُدِّر أن يرحل شوقي أولاً فرثاه حافظ. وكنت أتوقّع -وأنا الأخ الأكبر لنادر- أن أسبقه في الرحيل، فأُتيحَ له أن يقف وِقفتي هذه على المنبر، ولكنّ المشيئة الإلهية أرادت غير هذا.
والآن، في مسعاي إلى أن أنشر كتابًا يضمُّ كلَّ ما كُتب ويًكتب عنه، آمل أن يساعدني أصدقاء القلم في جمع كلِّ ما هنالك.
أخيرًا أقول: وداعًا أخي نادر، وأستمطر الرحمة عليه.