وأقدر أن السؤال ألح عليه وهو يرى حشود المحتفين به من إعلاميين وأدباء وجمهور اعتاد أن يقدر كل إبداع ويحتفي بصاحبه كما لو أنه نبي لمرحلة هامة من تاريخهم الإنساني ، ورغم ذلك، وأعني حتى لو كان حماس ساراماغو وراء تساؤله هذا، فهو تساؤل مشروع وقد يكون شغل صاحب أول نص إبداعي في تاريخ البشرية ، وهذا التساؤل ليس حكراً على أدباء بحجم خوسيه ساراماغو وغابرييل غارسيا ماركيز ودوريس ليسينغ ، والفائزة الأخيرة بجائزة نوبل للآداب الألمانية هيرتا موللر وغيرهم ، بل هو هاجس كل من ابتلى بحرفة الأدب ، ولا يستثنى من ذلك المهتمون بالنصوص الأدبية ، وقد تفاجأ بسؤال يطرحه رجل الشارع العادي حول جدوى الأدب ، وإن كان قادراً على منع الجريمة وإطعام الجياع وإنصاف المظلومين والقضاء على الفساد بكل أشكاله وأنواعه وإيجاد مصدر عيش لكل العاطلين عن العمل وابتكار دواء لجميع الأمراض المعدية والقاتلة... إلخ.
ويتساءل المنشغلون بالهموم اليومية : إن لم يكن الأدب قادراً على التصدي لكل مآسي البشرية فلماذا الكتابة وما جدوى هدر عمر بكامله من أجل كلمة لا تساهم في التخفيف من شقاء الإنسان ومد يد العون له حين يحتاجها، بمعنى آخر ما جدوى الأدب إن لم ينغمس الأديب حتى أذنيه باليومي والمعاش؟
تبدو هذه الأسئلة للوهلة الأولى مشروعة لأن الإنسان العادي يعتقد أن الأدب هو للآني الذي يتناول الهموم اليومية والمعاناة الإنسانية بأسلوب لا مواربة فيه ولا يخلو من المبالغة التقريرية، أما قضايا الفن والجمال ونرجسية الأديب، وهي بكل تأكيد أحد دوافع الكتابة، فهذه جميعها لا تشغل الإنسان العادي ولا تستوقفه في وقتنا الحاضر، والحال هذه كيف سيصير العالم أفضل من ذي قبل بفضل نصوص أدبية قد لا تقرأ ولا تهم إلا النخبة، فيما الصحافة بأخبارها المحلية وتحقيقاتها وزواياها المتنوعة التي تتناول اليومي والمعاش صارت هدفاً لرجل الشارع بل صارت في ذاكرته منبراً أدبياً موجهاً إليه كونه يلامس واقعه ويتناوله بتقريرية ومباشرة تعبر عن سخطه واحتجاجه على واقع يستهلكه ويبتزه بل ويستخف به أحيانا، ولكن هل يصبح العالم أفضل بهكذا طرح؟ لنقل أن الصحافة تتعاطف مع الجمهور العادي، وهي تشبه إلى حد كبير بمقالاتها وتحقيقاتها وجبات سريعة يتناولها الجائع على عجل، تشبعه لكنه على الفور ينسى طعمها ونكهتها، وفي الوقت ذاته تجهض ثورته ورفضه وتسكن أوجاعه وأقدر أن الحالة الأخيرة التي تعتري الجمهور هي أحد أهداف صحافة التحقيقات وفضائح الفساد، ولولا ثقة السلطات المختصة أن هكذا سياسة تخدم أهدافها لما سمحت بنشر فضيحة مالية أو تحقيق حول تخريب أو انتقاد لمسؤول ما، إذ يعتقد المواطن أن نشر مشاكله في الصحافة صارت في عهدة الجهات المختصة وهذه ستتحرك فوراً وتعمل على حلها وإعادة الأمور إلى نصابها، أما الأدب فهو برأي رجل الشارع ثرثرة فارغة لا وقت لديه لمتابعتها، كما أنه لا يخيف السلطات المختلفة ولا أصحاب القرارات كونه أدب النخبة حصراً، وهؤلاء وبسبب قلتهم فهم تحت السيطرة والرقابة، ولكن هل الأدب بمنأى عن اليومي والمعاش؟
نستطيع القول أن الأدب كان وما يزال متورطاً بكل ما يشغل بال الإنسان على مر العصور وما يهم المجتمعات البشرية على اختلاف انتماءاتها، والأديب لم ينأى يوماً بنفسه عن بيئته وتاريخه وما تفاعله وحساسيته العالية بما حوله إلا دافعاً آخر من دوافع الكتابة على اختلاف أجناسها « الملحمية،الشعرية، المسرحية، القصصية، الروائية «، وهذه جميعها كان الواقع التاريخي والمعاش بذرتها الأولى، التقطها الأديب وأخرجها على شكل عمل أدبي بعد أن ضمنها رؤيته وأسئلته الوجودية والحياتية، ولم ينس أن يحملها بعضاً من حسه الفني وتذوقه الجمالي، وهذا ما يسمى أدباً، ونستطيع القول أنه بهكذا أدب يصبح العالم أفضل . ولكن من حكم العالم في الماضي القريب والبعيد ومن حكمه في البدء ومن يتحكم به الآن؟ هل هم رجال الأدب أم رجال السياسة؟ بمعنى آخر : هل يخاطب العالم باللغة الأدبية أم بلغة أخرى هي لغة الحرب والتجويع والتهديد والوعيد والقتل والدمار؟
تقودنا هذه الأسئلة إلى سؤال جوهري وهو : هل حكم الأدباء العالم عبر التاريخ من خلال نصوصهم الأدبية أو هل أثروا به بشكل أو بآخر؟ هل أوقفت رائعة تولستوي « الحرب والسلام « على سبيل المثال، الحروب والجوع ومجازر القتل؟
ليس سهلاً أبداً الإجابة على هذا السؤال، فالأديب يوصف دائماً بأنه صاحب رؤيا وفي الوقت ذاته صاحب نبوءة، والحال هذه لنعد إلى الماضي السحيق إلى زمن الملحمة الإنسانية الثانية « جلجامش «، وإذا اقتطعنا منها قضية الخلود التي شغلت بطل الملحمة ودفعته للخوض في المجهول بعيداً عن أوروك هدفه العثور على الخلود من خلال مادة ما « رغيف خبز أو شراب أو فاكهه أو زهرة « و بعد رحلة مثيرة ومليئة بالأخطار لم يخب ظنه فالمغامرة أرسلت إليه الخلود متجسداً بزهرة حملها من الجنة ثم خطفتها منه أفعى حين كان يغتسل في بحيرة من الماء العذب، إذن، الخلود ممكن ومادته موجودة في مكان ما لكن الوقت ما زال مبكراً لمنحه للإنسان ، إذن لا خلود للإنسان في زمن الملحمة، لقد كتب الموت على بني البشر في حين كتب الخلود للآلهة.
كانت الملحمة ستوصف بأنها عمل فني جميل ومدهش فقط لولا أنها انتهت بمقولة : الخلود مستحيل الآن ولكن لتترك الأبواب مفتوحة أمام المستقبل فقد يصبح ما هو مستحيل الآن ممكناً في يوم ما والدليل على ذلك زهرة الخلود. والآن، ألم تحكم هذه العبارة التاريخ البشري منذ جلجامش وحتى الآن؟ ألم تشكل حافزا قوياً للعلماء من أجل البحث والتجريب؟ ألم تجند دول العالم الغنية والإمبراطوريات المتعاقبة علماءها وطاقاتها البشرية والمادية للبحث عن وسيلة للخلود أو إطالة العمر والحفاظ على الشباب الدائم؟
ماذا تسمى العقاقير الطبية على اختلاف أنواعها؟ أليست خطوة على طريق الخلود؟ ألم تطل هذه العقاقير عمر الإنسان؟ وتخفف من أوجاعه ومعاناته؟ ألم تساهم عمليات التجميل التي ابتدعها العلماء في إزالة التشوهات الخلقية ومعاناة جرحى القتل والتدمير؟ بل وتجميل القبيح والحفاظ على مظهر فتي ومحبب ألا يصب هذا كله في صالح الإنسانية؟ ألم تؤدي هذه المقولة الأزلية إلى إسعاد البشر؟
أخيرا ً قد يأتي يوم تسري فيه على العالم مقولة رواية الحرب والسلام لتولستوي وتجعل نصوص خوسيه ساراماغو الأدبية العالم أفضل بكثير من الآن ومن ذي قبل، وريثما يأتي ذلك اليوم فالأدب سيظل من خلال نصوصه واحة تلجأ إليها البشرية لتخفف من وحشة العالم ووحشية أصحاب قرارات القتل والتجويع والظلم . والآن هل ثمة من يقول أن الأدب لا يحكم العالم؟