|
الحوار وأخلاق التهميش ملحق ثقافي
فالفعل هو ما نُقدم عليه من كتابة أو رأي ما، وردّ الفعل هو النتيجة الحتمية التي يتولّد عنها رأي يذهب لترجيح كفة تلك النتيجة من خلال الترحيب بها، بينما يذهب رأي آخر لرفضها رفضاً باتاً، ما يهمنا في الأمر هي هذه الحالة الأخيرة التي تشترط تقديم الحُجة أو الحل البديل، ينتهي الجدل بأن تكون تلك النتيجة المُستخلصة منطقية تحظى بالإجماع، وعليه.. إذا تحققت تلك الشروط، شروط الطرح البديل، قد يتولد عن الفعل رد فعل آخر على ردّ الفعل الذي جوبه به، في هذه الحالة تحديداً يُنعت فريق ذلك الفعل أو فريق ردّ الفعل بالتزمّت والتصحّر الفكريّ والدكتاتوريّة في الرأي، الأمر الذي يتنافى تماماً مع قواعد الحوار وأبجديات الكتابة الإبداعية ـ الصحفية خاصة ـ التي تفترض أخلاقاً مهنية صرفة للرد على الفكرة بالفكرة دون إقصاء أو تهميش لأي طرف من الأطراف المُتحاورة.
ما تشهده الثقافة العصرية، العربية تحديداً، من رسائل مُشفرة وسجالات بيزنطية عقيمة في الصحافة ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة غريب لدرجة اليأس والاكتئاب والإحباط، ففي الوقت الذي تسعى فيه بعض الأقلام الغيورة والمبدعة لرفد الساحة الأدبية بالأصالة والجدة، من خلال تكريسها للتجربة الحياتية في قالب إبداعي رائق وأصيل، تتخندق وتنتفض أقلام أخرى لوقف هذه المسيرة الحية عن بكرة أبيها، بالتسلق والتزلف وطق البراغي، الأمر الذي يدعونا لوقفة تشريحية مُطولة، والتفكر طويلاً في مصير الأدب من أمر قافلة المتربصين هذه، التي ـ ربّما ـ انطبقت عليهم في هذا المعرض تلك المقولة التاريخية التي تقول: «تفاحة عطنة واحدة تفسد صندوقاً.!»
إن أسوأ طبقة هي طبقة المثقفين كما جاء على لسان الشاعر والمفكر الكبير أدونيس، ربّما كان الأولى بمبدع الثابت والمتحول أن يقول: إن أسوأ طبقة هي طبقة مُدّعي الثقافة أو أشباه المثقفين التي لا تقرأ في السنة الواحدة عملاً أدبياً واحداً، طبعاً تلك المقولة تحمل بين طياتها الكثير من المعاني والعِبر، وتستدعي باعتقادي قراءة المضمر فيها للظفر بـ لبّ المُعلن. إن ما دعا مثقفاً كبيراً مثل أدونيس لمقولة كتلك، هو اشمئزازه/ امتعاضه من الواقع المتردي للطبقة أو النخبة المثقفة، التي أفرزت لنا في غفلة لامبالاتية منها، عن المسؤولية المؤتمنة عليها، أولئك المُدّعين المارقين، فانصبّ جُلّ اهتمامها على القشور بدل الإبداع، وحياكة المؤامرات وتدبيجها ـ ممثلة بأسماء عالة على الأدب شكلاً ومضموناً ـ خدمة لنظرية الإقصاء المتفرعة عن نظرية المؤامرة التي تشربوها وامتهنوها لخلق فريق متربّص على مبدأ من ليس معنا فهو ضدنا، لا يتقن سوى الطعن في ظهر المبدع لكي يصرفه ولو مؤقتاً عن إتمام رسالته السامية إلى قرّائه في أرجاء هذه المعمورة.! أليست هذه الطبقة هي التي أثارت ذلك الجدل الكبير في مسيرة الشاعر المجدّد محمود درويش، وحاولت، بل استماتت الاصطياد في المياه العكرة بتحجيمه ووضعه في دائرة ضيقة مستشهدين بأخطاء لغوية وعروضية سببت خللاً في وزن وموسيقى قصائد له في ديوانه الأخير «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي».؟! فيما ذهب قسم آخر إلى الاستشهاد بدعوته لعروبة الكون «سجل أنا عربي» متناسين بأن درويش الشاعر كان قد كتب «مديح الظل العالي ـ الجدارية ـ أثر الفراشة.» وقال أيضاً: «كلّ قلوب الناس جنسيتي.؟!» هذه الرؤية الأحادية ذاتها للنقاد هي من تكتمت على أخبار الشاعر السوري رياض صالح الحسين، الذي كان من أهمّ روّاد قصيدة النثر إن لم يكن رائدها الأوّل على الإطلاق. أليست أم المهازل عندما تبحث عن شاعر مطبوع كـ الحسين ولا تعثر على مقالة عنه في موقع البحث «غوغل» أو في أي موقع آخر، بل لا تجد في بعض المكتبات التي تعج بالغث والمُبتذل بَحثاً أو مَرجعاً عنه.؟ وهو الذي كتب في المقال الصحفي والقصة القصيرة وقصص الأطفال والنقد الأدبي، كما كتب أجمل أربعة دواوين شعرية ما زلنا نُردّد أبياته التي جاء فيها حتى اللحظة وهي على التوالي: خراب الدورة الدموية 1979، أساطير يومية 1980، بسيط كالماء واضح كطلقة مسدس 1981، ووعل في الغابة 1981. شاعر لا يُختلف على جودة شعره وصنعته الأدبية في كلّ قراءة لعمل من أعماله تلك، فالحسين الذي منعه الصمم والبكم من إكمال دراسته كان مجدّداً كبيراً في فنون الكتابة الأدبية واستنباط الصور الشعرية اللامألوفة في فرادتها الفارهة. إن هذا التجهيل المُضمر واللغة المحسوباتية/ الإقصائية التي تنبني في أُسّها العميق على تصفية الحسابات الشخصية في السرّ وفي العلن تفرز آثاراً خطيرة على الذوق الأدبيّ العام من خلال سيادة إبداع هش لا ولن يصمد أمام مقارنة بسيطة بين ما يُكتب عندنا وما يُكتب عند الآخر، الأمر الذي يحيل الساحة الأدبية إلى حلبة تتصارع/ تصطرع فيها الديوك الشرسة بدل الفرسان الغيورين على رفعة الأدب وأصالته. كما أنه لم يكن منصفاً إطلاقاً ما تعرض له القاصّ السوري الكبير زكريا تامر ـ شاعر القصة القصيرة ورائد الواقعية التعبيرية ـ في الآونة الأخيرة من حملة تشهيرية، فالتجربة التامرية التي تُرجمت إلى جُلّ اللغات العالمية وأنصفها الغريب والقريب بمنحهما له جوائز عالمية لم تتح ربّما لسوري غيره نقل السرد السوري من الرتابة والتقليدية إلى حداثة موظفة، بأن اجتمعا على علوّ كعبه في قصّ عربي رائد على صعيدي الاشتغال الحكائي والانزياح اللغوي ممثلاً بالفكرة/ الحدث/ الومضة المُدهشة، وبالتالي غرائبية عوالمه القصصية الموظفة التي تناولت تشريحاً وتحليلاً الممرغين في القاع من الناس، فاقتصّ لهم تامر بمعماره الهندسي/ القصصي الفاتن من أولئك الذين شوهوا هذه الحياة بظلمهم وجورهم واستبدادهم. أليس من المؤسف جداً تكريس الوقت الثمين في قراءة بعض الأعمال التي يتشدق مؤلفوها ـ بدافع من عُقد النقص التي يعانون منها ـ جهاراً ونهاراً، في التلفزة والصحف والمجلات، بادعاءاتهم التي تتمحور بالحفر الجديد في مسعى حثيث منهم لمواكبة أدب فريد يستعصى على أقرانهم كتابته.؟! الغريب في الأمر هو إطلاق تلك الصحف والمجلات والتلفزة على كُتَّاب كهؤلاء ألقاباً من قبيل: الفذ.. اللوذعي.. النحرير.. الجهبذ.. أديب الأدباء. بالإضافة إلى حوارات لا تعد ولا تحصى معهم يظهر فيها جلياً التواطؤ بين المُعدّ والضيف الكريم فيما يتعلق بالأسئلة والأجوبة. فيُحتفى بهم وبأعمالهم، وتسوّق تلك الأعمال ببهرجة لم يسبق للماغوط والسياب والجواهري وإخلاصي وواسيني الأعرج أن سُوِّقت أعمالهم بحظوة كتلك وطريقة كهذه. أذكر أنني شاهدتُ في التلفزيون لقاءً مع أحد الكُتَّاب في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، كان حدثاً فريداً بسبب من ظهور كاتب على الشاشة الفضية، أثنى فيه مقدم البرنامج كثيراً على أعمال الكاتب الضيف، وعلى عملٍ له تحديداً يتناول فيه سيرته الذاتية، فما كان مني في اليوم التالي إلا أن اشتريتُ أعمال ذلك الكاتب جميعها، ففوجئت في ذلك الوقت ـ ويا للهول ـ بضحالة عوالمه الإبداعية التي لم تكن سوى أوهام وأطياف تتكرر على مدار صفحاته جميعها.! ما يزيد الطين بلة، أننا نعرف حقيقة هؤلاء الكُتَّاب... لكننا كغيرنا ننساق ـ إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا ـ وراء أكاذيب الدعايات الإعلانية التي تروج لمنتوج أقرب ما يكون إلى الهذر والهذيان والغثيان حتى.! كلّ شيء جائز في صحافتنا الموقرة، بحيث يغدو الطبيعي لاطبيعياً واللاطبيعي طبيعياً، فيذهب صحفي عجيب، من الدرجة العاشرة، إلى نعت كتابات كاتب من الدرجة الأولى مرة بالغموض ومرة أخرى بعدم عمقها وسبكها، ثم نتساءل بحيرة ـ نحن الجُناة ـ عن وضع الأدب المتردي.؟! عن الذين جعلوا من واحة الأدب الغناء مستنقعاً آسناً.؟ فنعقد المؤتمرات والندوات ونسارع إلى إقامة المهرجانات وإحياء الأماسي الثقافية للوقوف على هذه الظواهر السلبية التي أصابت الأدب في مقتل على مقتل.! يقول العقاد في مطالعاته ص 18: «لا فلاح لأمة لا تصحح فيها مقاييس الآداب ولا ينظر فيها إليها النظر الصائب القويم، لأن الأمم التي تضلّ مقاييس آدابها تضل مقاييس حياتها والأمم التي لا تعرف الشعور مكتوباً مصوّراً لا تعرفه محسوساً عاملاً. فالكتابة إبحار في جوهر المعاني وحقيقة الكائنات وسبر لحقائق الكون والوجود والبحث عن اللغز الأكبر، لغز الإنسان والكون».
|