لأنّه كان متخلّصاً من فصام المثقّف العربيّ، إذ كان صادقاً مع ذاته، ونقل ذلك الإحساس بالصدق إلى متلقّيه في كلّ مكان.
رافق شعره يفاعة أكثر من جيل، واستمرّ معه في شبابه وكهولته، وليجرّب أحدنا استعادة بضع قصائد، أو استعادة ديوان لنزار قبّاني، وسترون كيف ستتقافز الرسائل الإلكترونيّة تبحث عن رفاق الأيّام الخوالي، وكيف ستعود الذاكرة لتحيي فينا غراماً ربّما بات رميماً.
لقد أيقظت رؤية نزار الشعريّة المتأتية من وعي بورجوازيّ، ونفس توّاقة إلى المعرفة، وإلى المساءلة، وعدم الركون إلى النمطيّة والقوالب الفكريّة الجاهزة، أيقظت وعي الإنسان العربيّ، ووضعته في مواجهة مع ذاته، ومع ظروفه ومع تاريخه، في وقت علا فيه صوت الإديولوجيا، والتخوين، والنفي، واستلاب الوعي.
لاشكّ في أنّ كلامي على نزار قباني ليس بجديد، ولكنّني اشتهيت أن أحتفل من دونما مناسبة بـ «أبجديّة الياسمين» آخر دواوين نزار قباني، والذي جمعته أسرته بعد موته، ونشرته في نيسان 2008. يضمّ الديوان قصائده الأخيرة غير المنشورة، ومقطّعات كتب نزار بعضها على أوراق مستشفى «سان توماس» في لندن، وعلى أكياس الأدوية التي كانت في متناوله في الغرفة رقم 12. هي قصائد مسوّدات، بعضها غير مكتمل، وبعضها الآخر لم يتمّ ضبط وزنه، لكنّها عبارات نزار، وشعريّة نزار، وروح نزار! بالطبع لسنا في معرض مناقشة ديوانه أو شعريّته، فالرجل الذي كان يتنفّس شعراً، نفخ روحه شعراً، وهو يبحث عن العودة، عودة العربيّ إلى هويّة واضحة، متخلّصة من حالة التشظّي، وعودة الرجل إلى رحم امرأة يعشقها، وعودة المرأة إلى أنوثتها المقدّسة، وعودة الشاعر إلى الشعر. لعلّ كلاًّ منّا إذا ما راجع علاقته بشعر نزار، سيكتشف أنّه مشتبك معه بطريقة معقّدة، مشتبك مع ثقافته الجمعيّة والفرديّة في آن معاً، فمن «الفالس» و»التانغو»، إلى «الإمامة والسياسة»، مروراً بأسطورة ليليت، إلى أن نعرف أخيراً كيف يمكن لشفتي الجرح أن تقبّلا السكين المسافرة فيهما!
طالما اختزنت الكلام على علاقتي الشخصيّة بشعر نزار إلى قادمات الأيّام، لكنّ ظرف الشعر العربيّ الآن لم يترك لي فرصة لكتمان بعض الأسرار...
كنت ربّما في الصفّ الرابع الابتدائيّ عندما بدأت أغافل الجميع فأفضّ الرسائل التي تأتي من نزار إلى أبي أو عمّي، أفتح صندوق بريد العائلة رقم «25»، وأقرأ، ثمّ أسلّم الرسائل إليهما، مدعية أنّها وصلت مفتوحة، فيظنّ أهل البيت أنّ «الأمن» هو من فتحها، ذلك أنّها كانت عادة شائعة آنذاك! لم تكن تكفيني الدواوين حينها، فالدواوين للناس جميعاً، ومع ذلك فرسائل نزار إلى أصدقائه حميمة، وراقية، وصادقة، وعابثة أحياناً مثلما هو شعره، ولعلّه كان يتفرّغ لصناعتها مثلما كان يتفرّغ لصناعة الشعر، إذ يقول في قصيدته من الديوان الأخير:
أتفرّغ للكتابة عنك..
كما يتفرّغ نبيّ لكتابة الوحي..
وكما تتفرّغ بيوت الشام لصناعة الياسمين..
وكما تتفرّغ نساء الشام..
لصناعة الأنوثة..
مازلت أنتظر أن يطلعني أبي على رسائل نزار الإسبانيّة، فهو لم يفعل إلى الآن! ومازلت أطرب لذكرى رسالة نزار إلى عبد السلام العجيلي، حول تعيينه له، سفيراً في إسبانية، حينما كان العجيلي وزيراً للخارجيّة السوريّة، وتندّرهما على الذين غمزوا من قناة بأنّه سلّم حقيبة إسبانيا لنزار قباني لأنّه صديقه، فكان العجيلي يقول: سلمتها له لأنّه شاعر!
ذهبت حقائب دبلوماسيّة كثيرة، وأتت أخرى، وستذهب أيضاً، لكنّ حقيبة إسبانيا هي وحدها الباقية:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا ما أطيب اللّقيا بلا ميعاد!
عينان سوداوان في حجريهما تتوالد الأبعاد من أبعـاد..ِ
لعلّ الشعور بالشجن الذي تحمله مطالعة شعر نزار، يعود إلى أنّ هذا الشعر كان رفيق هوانا، وإخفاقاتنا وانتصاراتنا، ويعود أيضاً إلى الإحساس بالأزمة، إذ إنّنا بعد سقوط الأقنعة الثقافيّة، التي تكشّفت عن وجه واحد، أنّى قلّبناه، لا نجد بدائل! إنّ عجلة السياسة والاقتصاد التي ندور حولها أو تدور بنا، تنأى بنا عن ذلك الإحساس بالأزمة، لكنّنا في أزمة ثقافيّة فعليّة، وكوننا في أزمة ثقافيّة يعني أننا في أزمة وجود، تحملنا على أن نتساءل عن الوقت الذي ستتفرّغ فيه الأمّة لصناعة شخصيّات ثقافيّة ناضجة، شخصيّات بلا أقنعة، تفكّر، وتبدع، وتقول، وتفعل، وتطرح رؤيات سياسيّة في آن معاً!