تباين أخلاق الإنسان
ملحق ثقافي الثلاثاء31/1/2006 أبو حيان التوحيدي جرى عند ابن سعدان يوماً كلام في الأخلاق، وحضره جماعة منهم عيسى بن ثقيف الرومي أبو السمح، وغير هؤلاء من مشايخ النصارى، وكانوا متحرمين بالفلسفة ومحبين لأهلها، وكان محصول ذلك:
من أراد أن يُكسب نفسه هيئة جميلة، وسجية محمودة، بتهذيب الأخلاق وتقويمها وتطهيرها من الأدناس التي تعتريها، تقسمه أمران متباينان: أحدهما عسر ذلك وإباؤه، وتعذره والتواؤه، فيظن لذلك أن الأمر الذي يحاوله معجوز عنه،وأنه غير مقدور عليه،و أن الوصول اليه محال. والآخر استجابة ذلك وانقياده، ومطاوعته وإمكانه، فيظن لذلك ان الغاية التي يؤمها باجتهاده وقصده ورأيه وعزمه، دانية معرضة سهلة قريبة.و المثال على هذا من الشاهد في أخلاق الانسان إذا قصد نظافة بدنه، وتدليك أعضائه،وتقليم أظفاره، ونفى القذي عن عينيه، وتسريح شعره،وترجيل جمته، وتنقيه أرفاغه وإزالة الدرن عن مغابنه بيده ويد غيره، والقيم في الحمام وغيره، وقدر على ذلك ووجد السبيل إليه سهلاً حتى يخرج من الحمام ناضر البدن نقي الأطراف قد اكتسب صاحبه صباحة ونظافة وضياء وخفة ظاهرة من ثقل ما كان راكبه وملازمه من الوسخ والدرن، فإن أراد بعد ذلك أن يُحولَ فَطَسَ أنفه قناً، وزُرقة عينيه حَرَراً، ولَفَفَ لسانه استمراراً، أراد المحال، وحاول المعجوز عنه، وقرف بسوء الاختيار، وحكم عليه ببوار السعي وبطلان الاجتهاد. ومع هذا فليس له أن ييأس من إصلاح ماهو مستطاع، ليأسه من إصلاح ماهو غير مستطاع، وليس له أيضاً ان يرجو إصلاح ماليس بمستطاع، لاقتداره على إصلاح ماهو مستطاع. قطب هذه المذاكرة في الأخلاق، على ان تهذيبها وتطهيرها وردها الى مقارها، وتسويتها وتعديلها من الصعب المتعسر، والممتنع المتعذر، لكنها مع هذا كله ممكنة من نفسها في أشياء خاصة،و في مواضع معلومة، بعض الإمكان، وضامنة الاستحالة فيها بعض الضمان، فعلى هذا لاينبغي أن يطمع في إصلاحها كل الطمع، ولايقطع الرجاء عن إصلاح الممكن منهاكل القطع. وكان في كلامهم حشو كثير حصلت خالصة زبدته ما أعدت ههنا، وذكرته في جملة الكلام والناس من أول الدهر إنما يتكلمون في الأخلاق، على هذا تدل الكتب السالفة، والأشعار المتقدمة، والمواعظ القائمة، والمزاجر المترددة، ومع ذلك كله من طبع على الجبن ليس يجيء منه شجاعت، ومن طبع على الغيرة لم يمكنه أن يغفل، ومن وجد في سوسه شيئاً أبداه، ومن كان في قوته شيء أظهره، ومن استكن في مزاجه شيء أبانه والأصل طالع على رابية الايام، والاختيار في الأشياء قوة ضعيفة جداً لإثبات لها مع الضرورة التي ترد قاهرة، وتوافي مجبرة، فإن الاختيار أيضاً في الاول من جملة تلك الضرورة في عرض القسمة السماوية، إن أذن له بدا وظهر، وسعى وسفر: وإن تكن الأخرى بطل حكمه ورسمه، وارتفع عيبه وفعله. وقد شاهدنا من يمدح الجود و يحث عليه، ويحسنه ويدعو اليه، وهو أبعد الناس من العمل به، والقيم بحكمه.وقد وجدنا من يلوم التغافل في الحرمة ومايجري معها، ويبعث على الغيرة والصرامة فيها، وخوض الدم من أجل عارض في بابها، وهو أشد الناس انحلالاً فيها،و أظهرهم اختلالاً عليها.فكأن ما يقوله أحدهم ذاما ومادحا، هو غير ماينبغي أن يأتيه أويتركه مجتنباً.
|