تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


العربية والمعاصرة

ملحق ثقافي
الثلاثاء31/1/2006
زكي نجيب محمود

نعم، قد يبدو للوهلة الأولى أن بين العربية و المعاصرة تناقضاً أو ما يشبه التناقض، ولذلك يجيء السؤال الذي يلتمس طريقاً يجمع الطرفين في مركب واحد، وكأنما هو سؤال يطلب أن تجتمع مع الماء جذوة نار؛فهل بين الطرفين مثل هذا التعارض حقاً؟ أو أن ثمة طريقاً يجمع بينهما؟ ذلك هو السؤال.

وأنه ليسهل على المتسرع بالإجابة أن يجيب في حرارة المؤمن بأنه لاتعارض بين أن يكون الرجل مترعاً بالثقافة العربية القديمة وبما ينبثّ فيها من قِيَم ومعايير وطرائق عيش وسلوك وأهداف ووسائل، وأن يكون في الوقت نفسه من أصحاب التخصص الدقيق العميق في ثقافة هذا العصر الذي نعيش فيه، بقِيَمه ومعاييره وأهدافه ووسائله: أقول إنه ليسهل على المتسرع بالإجابة أن يقول هذا، لأنه ما أيسر على العربي أن يعيش على مستويين لاصلة بينهما،فالقول في ناحية والتطبيق في ناحية أخرى-وهذا في ذاته إرثٌ ورثناه من ثقافة الأقدمين- فليس على العربي من بأس أن يشتعل حرارة إذ هو يتحرك في دنيا اللفظ كلاماً أو كتابة، حتى إذا ما فرغ من لفظه انطلق الى دنيا العمل على نحو مختلف أشد اختلاف. ليس على العربي من بأس في هذه النقلة من لفظ في ناحية وعمل في ناحية، بل إنه على الأرجح لايتمهل لحظة واحدة ليسأل نفسه وهو مغمور في العمل: أيكون هذا العمل مسايراً لما كنت أقوله أم لايكون؟ وما أكثر ما صادفنا بين الناس ناساً درسوا هذا الفرع أو ذاك من فروع العلم، كالفيزياء أو الكيمياء أو ما إليهما، ولاينفكون يزهون أمام الآخرين بدراستهم العلمية التي لم يشبها شيء من أدب وشعر ونحو وصرف- فهذه كلها عندهم من علامات التخلف عن العصر وما يقتضيه- ثم يفاجئونك في جلساتهم الخاصة بقصص يروونها عن إيمان وتصديق، تقوم كلها على الخوارق والكرامات التي لايجوز قبولها إلا إذا أجزنا تعطيل القوانين العلمية؛ فلهم ان يختاروا لأنفسهم أحد وجهين: فإما هم العلماء المعاصرون لروح العلم فيرفضون كل ما ينفي ذلك، وإما هم الوارثون لثقافة غير علمية فيقبلون هذا التذبذب بين أن كون للطبيعة قوانينها وألا يكون.. لكنهم يحيون في عالمين وهم لايشعرون، ويحسبون أنهم بهذه المجاورة بين الغرفتين فآنا هم يسكنون في غرفة العلم المعاصر، وآنا آخر هم يسكنون في غرفة الخوارق والكرامات، أقول إنهم يحسبون أنهم بهذه المجاورة يكونون قد دمجوا الماضي في الحاضر ذلك الدمج العضوي الذي نعنيه حين نلتمس لأنفسنا طريقاً يجمع بين التراث الثقافي والفكر المعاصر. ولست بالطبع أعني أن كل ماورثناه عن الأقدمين هو هذه الوقفة التي تؤمن بالخوارق والكرامات، ولكني ضربت ذلك مثلاً سريعاً لأبيّن به كيف يسهل على العربي- حتى المثقف بالثقافة العلمية- أن يعيش في عالمين لاتربطهما الروابط العضوية،وهو لايدري.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية