تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حال المحترف السوري اليوم ذاكــــرة الأســـطورة وطــــوباوية التجــــريب

ملحق ثقافي
الثلاثاء31/1/2006
أيمن الغـــــــزالي

لا يمكن أبداًَ إغفال دور الثقافات في العملية الإبداعية سواءٌ بالنسبة للمبدع أو بالنسبة للمتلقي وخاصة في الفن التشكيلي، منطلقاً من فكرة أن اللوحة لا تتعامل بمفهوم المشاهدة أو التطوير فقط وإنما تُبنى على أساس إعادة تشكيل هذا الواقع ضمن لغة نوعية خاصة بها، هذا يتطلب الكثير من الجهد والكثير من الثقافة التي تحاول الاختزال والتدمير وإعادة البناء لتصبح الدلالة موصوفة في الواقع كما هو الحال في المادة.

وبناءً عليه إننا أمام مرحلة تتطلب منا وضع كل شيء على حقيقته وبغاياته الأساسية من أجل تعزيز دور الفن التشكيلي في حوار الحضارات الذي لا يحتاج إلى لغة مباشرة لأنه يمتلك خصائص المخاطبة عن طريق حاسة البصر ولأن اللوحة بمفهومها العام تمثل شهادة حية في الزمان والمكان. ومن هنا وفي ضوء المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والمفاهيم الفكرية والإنسانية التي سادت موجة العولمة في الساحة الدولية والعربية في نهاية القرن العشرين، والتي كان لها بالغ الأثر في التيارات الثقافية والفكرية في العالم،‏

جعل من قراءة الحركة التشكيلية السورية مطلباً مهماً، يتطلب الكثير من التأني في تصنيف هذا النتاج التشكيلي في محاولة لإعادة النظر في خلق متوازن بين الفكرة والشكل ضمن صياغة معاصرة على القيم التراثية العربية وما يميزها من صفاء روح ووجد إنساني. إن قراءة سريعة للمشهد التشكيلي السوري تبين لنا أن المعلوم والواضح منها هو أقل بكثير مما يحمل في داخله من تجارب وتيارات وأسماء. وذلك نتيجة الكم الهائل و المنابر المتعددة وغياب النقد والمتابعة. والمتداول والمعروف يؤلف الجزء الظاهر المعروض أساساً بحجم كبير من عناصر كثيرة تختبئ بكثير من الهشاشة والخوف وأحياناً التعتيم. هل يبدو بناءً على ذلك أن الفن التشكيلي السوري بملامح مشتتة رغم كل ما وصل إليه خلال الخمسين سنة الماضية،‏

فينطوي على شعور قوي بأنه غير متكامل رغم ما يبرر ظاهره بأنه موجود ويشكل بشكله ومضمونه وحجمه حيزاً ثقافياً ناشطاً أكثر من باقي الفنون الأخرى وخاصة في الفترة الماضية التي شهدت ازدياد عدد الفنانين وصالات العرض والمعارض على مدار السنة وكذلك ما يرافقها من نشرات ودوريات ومطبوعات ومحاضرات. كل ذلك حقق للفن التشكيلي السوري حضوره المميز في بناء المشهد الثقافي السوري على مدار الخمسين سنة الماضية ولكن هل اكتسب المشهد التشكيلي وعلى مدار الأعوام الماضية هويته وسماته التي تميزه وتضعه في مكانه الطبيعي في الحراك الثقافي السوري والعربي والعالمي بشكل عام؟ هل شكّل استمرارية في الذاكرة والانتماء والذات. وهل الموجة التي بدأت في خمسينات القرن الماضي لتحرير ملامح أو هوية هذا الفن لا زالت مستمرة إلى الآن في ظل هذا التجاذب الذي وضع الإنسان العربي في مرحلة اختبار الهوية،‏

في الوقت الذي يواجه تيارات العولمة العاتية التي تكاد تخلع انتمائه ومفاهيمه وقيمه وتنسف ذاكرته بالكامل مهددة روحه وعقله.. مضافاً إليه مواجهة مجتمع استهلاكي أصبح ينظر إلى الثقافة بحيادية ويتداولها بالطريقة التي يراها مناسبة، إضافة إلى ذلك الفنان نفسه الذي يتهدده الشعور بالمحاصرة والعزلة، كل هذا سيجعل من حالة الارتباك موجودة، حالة يجب إدراكها وعدم التساهل في قراءتها وقراءة نتائجها لأنه سيكون من الصعب فيما بعد القبض على نارها ولهذا جاءت المحتويات مختلفة تماماً عن المطلوب والمراد وأصبح الفنان والفن ضحية هذا الوضع الراهن. لهذا فإن المشهد التشكيلي السوري لا يكاد ينمو بالمعنى الحقيقي للكلمة، بقدر ما يحاول جاهداً المحافظة على ترميم الهيكل لئلا يفقده، ناهيك عن نظرة المجتمع وحركته وتياراته ورياح التغيير التي قلبت المفاهيم والقيم والتي جعلت فعلها قوي أكثر من السلطة نفسها في التحكم بحرية التعبير واختيار الموضوعات بحرية لهذا كله كان لا بد من إعادة صياغة المشهد على نحو جلي وواضح من أجل التحليل بموضوعية بعيداً عن المكابرة والخجل. ابتدأ الفن السوري المعاصر (النهضة التشكيلية) منذ أربعينات القرن الماضي على يد ناظم جعفري ونصير شورى وميشيل كرشة، درس ناظم جعفري ونصير شورى الفن في مصر على يد يوسف كامل والذي كان يمثل تيار الانطباعيين، فيما بعد شارك ناظم جعفري ونصير شورى في تأسيس كلية الفنون الجميلة بدمشق ونقلوا إليها العقائد الانطباعية التي تعلموها آنذاك. إلى أن جاء الانفصال بين سورية ومصر، عندما ظهرت سلطة محمود حماد والتي جابهت الانطباعية حيث كان هذا الأخير هو المؤسس الحقيقي للفن المعاصر في سورية قبل أن يأتي فاتح المدرس ويشكل رأس الهرم في التعبيرية السورية المتميزة في أقطابها أمثال ( إلياس زيات ـ نذير نبعة ـ نشأت الزعبي ـ أسعد عرابي ـ وآخرون) وهم الذين أسسوا أهم جماعة في تاريخ الفن السوري المعاصر وهي جماعة العشرة عام 1973 ـ وأهم ما كان يجمعهم هو هزيمة حزيران الذي راح ضحيتها آنذاك لؤي كيالي الذي انتهى منتحراً. تزامنت هذه الجماعة مع التعبيرية العراقية المتمثلة في جماعتين (الرؤية الجديدة والفن الحديث) في العراق، بقي هذا حتى الثمانينات من القرن العشرين لتشهد ولادة جماعة متوازية مع العشرة وهم جماعة حمص وأبرزهم (ادوارد شهدا ـ كرم معتوق ـ غسان نعنع ـ عبد الله مراد ـ عبد القادر عزوز ـ وآخرون) وعندما تحالفت هذه الجماعات أسماء متزامنة ابتدأت من يوسف عبد الكي وتنتهي بأحمد معلا ثبت أن المحترف السوري عميق في تعبيريته المتميزة عربياً فيما عدا التعبيرية الملتزمة أو بالأحرى الواقعية الاشتراكية التي مثلها (علي سرميني ـ غازي الخالدي ـ نبيل رزوق وكثيرون آخرون). والذين تجمعوا في المؤسسات الفنية مثل نقابة الفنون الجميلة المسجل فيها إلى الآن أكثر من (3000 عضو) وكلية الفنون الجميلة دون الأخذ بعين الاعتبار للعلامات والمواهب ولا حتى صدق الخطاب السياسي المطلوب وهو ما أخّرَ ظهور إضاءات فنية معزولة في ما بعد التسعينات التي ندعوها بكوكبة ما بعد الحداثية من أمثال (الحفار ياسر الصافي ـ النحات محمد عمران والمصور فادي اليازجي ) ثم تظاهرت هذه الكوكبة بالتدريج بمواهب استثنائية على غرار (سارة شمة و بثينة علي). ومن الجدير بالذكر أن تقاليد فاتح المدرس الاستثنائية في تكريس الذاكرة السورية التصويرية لما قبل التوحيد كان له أبلغ الأثر لدرجة أن تكويناته الشطرنجية لا زالت تعيش حتى اليوم في لوحات الجيلين التاليين. إلا أنه رغم كل هذه الحضارات ظلت التعبيرية السورية ذات نكهة تراجيدية رافضة وأساسية في المحترفات العربية، يعترف الجميع بخصائصها التي استمرت مع جيل اليوم جيل العبث الوجودي فذهب أبعد ما يمكن عنه كرد فعل طبيعي على "الفاشية الفنية" وضمن هذه المحاولات في استمرار جيل الرواد الذي سبقوا في تأسيس التعبيرية السورية وتشكيل خصوصيتها الفنية ظهر الكثير من التجارب التي لم تتبلور صياغاتهم ضمن النسق الموصوف وظهرت موجة هائلة في التسعينات طرحت نفسها كماً مستغلة بذلك الفوضى التي بدأت ضمن الاغتراب والتطرف ِإلى التجاهل والتعتيم والتسطيح ومن استنهاض مدارس بالية إلى التشبث بأوهام تشكيلية غير مدركين لصيحات النقاد والرواد الذي لا زالوا خلف مراسمهم، رغم كل ذلك إن ما كان يجمع تاريخ أربعة أجيال من التعبيرية السورية هو هاجس تحديث الذاكرة الحضارية بشتى طبقاتها الآرامية والكنعانية والسريانية والعربية الإسلامية. ساعد على هذا الهاجس خصوبة التراكم الحضاري في سورية، فإذا أخذنا مدينة معلولا الآرامية مثالاً لاحظنا أن عمارتها أثرت على كل رواد المناظر الذين رسموها من لؤي كيالي وفاتح المدرس إلى إلياس زيات وغياث الأخرس وكذلك الأمر بالنسبة إلى تدمر عندما حاول إلياس زيات أن يجمع بين زنوبيا ومريم في الأيقونات السورية المحلية، واختص نشأت الزعبي ومصطفى نشار وبدرجة ما فائق دحدوح بإعادة استثمار رسوم المنمنمات الإسلامية ليشتد بعدها ساعد فاتح المدرس في هذا المجال ويتفوق على كل ما عداه وخير دليل متحفه القائم إلى الآن في وسط دمشق ـ الشعلان ـ فهو لا يزال إلى اليوم يسابق شباب ما بعد الحداثة برؤيته الحداثوية أما إلياس زيات والذي يعتبر أكبر مختص في فن الأيقونات الملكية أو السريانية فيعتبر من أبرز الفنانين العرب الذين استلهموا الأيقونة المسيحية المحلية. وإذا ما قفزنا إلى خصائص مدينة دمشق نفسها كبنية معمارية ونسيج ثقافي غني، نجد له أصول عند ناظم جعفري وتلامذته مثل (فائق دحدوح وأسعد عرابي ونذير نبعة وفؤاد أبو كلام وسواهم). لهذا إن أعمال الفنان أحمد معلا تأتي في هذا الإطار الذي يشكلّ خصائصه في خلق تعبيرية تحمل لغتها الواقعية وتأثيرها في عنصري الإحساس والمعرفة معاً مدركاً بذلك دور الاتصال البصري المستوحى من اللوحة التعبيرية المعاصرة على نحو دقيق ورفيع المستوى كأن نخلق تلك الحال حين تكون ألوانه تتفجر بينابيع اللحظة دفاعاً عن النفس والمثل والقيم في متع حقيقية للوصول إلى ألوانه الرمادية الخضراء كأنه الامتداد الطبيعي لنرجسية الطبيعة مستخدماً كل الفاعليات الحسية والقبول التشكيلي لبناء اللوحة وحشدها بملامح موسيقية فريدة وهو أول بشائر موجة ما بعد الحداثة والخروج عن السطح التصويري، وتمثل ذلك في معرضه تحية إلى سعد الله ونوس في صالة أتاسي، وتعددية الأداءات والوسائط وبذلك يكون أول من ثبت صفة التشكيلي عوضاً عن المصور لأنه غرافيكي ومصور ونحات وسينوغراف ومثقف. وإذا كانت أعمال أحمد معلا تأخذ هذا الاتجاه نجد أن نذير إسماعيل (لجأ إلى فلسفة الوجوه باقتناص جدلية الروح والمعنى في محاولة القبض على هويته الموزعة بين الذاكرة الشخصية والتعبيرية التجريدية) ضمن عمارة أسلوبية تحت مظلة الصراع السياسي في المعنى التعبيري، أمثال (يوسف عبد لكي) لكن هل بقيت هذه الرسوم رهينة هذا الصراع القائم والذي تبدت أركانه مع قوانين العولمة وصراع الثقافات واقتصاد السوق. وهل ظل حبيس هذه التعبيرية في اتجاهاتها التخييلية. أما باسم دحدوح الذي تبدت أعماله في (معالجة عالم اللون والمادة وإعادة بعثها وفق صياغات تقنية تتخذ من الجسد البشري مسرحاً لها وتوحي بحضور مميز للمعاناة الإنسانية في الجسد وتكثيفه في حالة اللون والتقنية) من جانب آخر رموز كثيرة يحفل بها المحترف السوري سيستمر تأثرها لفترة طويلة بدءاً من جيل الستينات أمثال (فائق دحدوح وأسعد عرابي وفاتح المدرس ونذير نبعة ونشأت الزعبي) هي التي أعطت تاريخ التشكيل السوري صفة المنجز الحضاري الهام ذو أبعاد حضارية للإمساك بالذاكرة البصرية وهويتها وراهنيتها. إذ يعتبر علي مقوص ومصطفى علي أحد الرواد الذين خرجوا عن التأثير التربوي في الأسلوبية والتقنية والنبض، والخروج عن سيادة الاقتباس الذي كشف عن روحانية الساحل السوري بتعبيرية موصوفة حية. ناهيك عن التجارب التي كان لها كبير الأثر في محاولة النهوض بالمحترف السوري مؤخراً أمثال بثينة علي والتي اختصت بالإنشاءات التشكيلية "التجهيز" وهي القادمة حديثاً من أوروبا وسارة شمة التي رفعت حساسية الصورة الإعلامية في وقت مبكر وإن وقفت مؤخراً عند حد الذات. هذا هو مزاج المحترف السوري اليوم الذي يتراوح بين ذاكرة الأسطورة المرسومة وطوباوية التجريب لكن هذا المحترف الذي قدم الكثير يعاني اليوم من محنة مزدوجة ترتبط بآلية غير منضبطة تنزع إلى سلوك كمي في منحاها الأكاديمي وآلية تسويق غير مفهومة فأغلب التجارب السورية الجديدة اليوم تسير في إطار وهاجس واحد هو تحليل الشكل الواقعي وتفكيكه وإعادة تركيبه لإيجاد حلول جديدة للتأليف والتلوين من أجل التأكيد على الملامح الخصوصية (محلية ـ شرقية) نابعة من فلسفة ذاكرتنا وهويتنا. لهذا إن التركيز على القوة التعبيرية الإيقاعية في صياغة الأسلوبية بشكل عام على التشكيل (اللوحة) السورية يأتي في سياق النكوص الشكلي والارتداد الكمي على حساب النوع وعدم خلق حالة حسية لونية تربط الجوهر بالإيقاع الفني وتجسيد الحياة بآلامها وأفراحها. وهذا ما أدى بعد فورة الاغتراف والاقتباس من القاموس الغربي بتقنيات تحمل ملامح المدن التي ينمو فيها بهواجس تجريبية وراء ما قد يكون النص التشكيلي الأكثر تعبيراً عن الحاضر العربي ومواصفات إنسانه بين الالتزام والفن للفن ولزوم الارتكاز على الإرث التراثي ليأتي النص متأصلاً مع ذاكرة المكان والزمان وليصبح الفن بهذا الشكل شريك في المفردات العالمية للفن وليس مقلداً ومتلقياً فقط. إذ لا زالت نظرية اللون الجغرافي والتي تعود إلى (تين) والتي شرحها في كتاب (فلسفة الفن الصادر عام 1880) وهي تأثير اللون والمناخ والوسط الجغرافي على المحترفات المختلفة وليس فقط على الانطباعية، هذه النظريات التي انتهى بعضها في الغرب لا زال المحترف السوري بأغلب تشكيلاته يتداولها بالرغم من أكسدتها واندثارها أما التعبيرية والتي اتصفت بشدة الانفعال على حساب الشكل والتي خرجت من الواقعية الاجتماعية لمجتمع رأسمالي فعمدت إلى إعطاء الحالة والحدث رمزيته التعبيرية على حساب التأمل الذي اتسمت به الانطباعية الحالمة والمتألمة لإبراز الخطر وأثر الحالات النفسية المرضية والحرب والدمار. ولأن الثقافات والمدارس الغربية كانت هي المرجع والملهم لهؤلاء فإنه تركت آثاراً لا يصعب تجاهلها،فمن الكلاسيكية إلى الانطباعية والتعبيرية والتجريد، بالإضافة إلى تيارات كثيرة دخلت متأثرة وهي تعمل على التقنيات والأساليب غير المصنعة أساساً وربما تكون وهمية وغير منطقية أسئلة كثيرة بحاجة إلى أجوبة ولكن يبقى الخوض في الإجابة رهين الاستناد إلى التجارب الآنفة الذكر، إن عدم موضوعية عمل المؤسسات الثقافية وكذلك غياب النقد المواكب لهذا المحترف جعل الكثير من الهواة يستبيحون أبصارنا بكل ما هو غث ورديء فبدت لوحاتهم أمزجة لونية لا تقارب حواسنا لأنها لم تبنَ بالأساس على ثقافة بصرية ولا فكرية أو رؤية فنية ولهذا اعتبرت نقابة الفنون الجميلة كل خريجي كلية الفنون هم أعضاء ويحق لهم إقامة المعارض. إن الفساد الذي تحول إلى تقاليد راسخة رغم أن المرحلة الراهنة تسعى إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه دون جدوى كما هي حال تدمير النسيج الدمشقي الذي لم يعد يفيد معه أي نوع من الإصلاح.‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية