وقفاً للنار وسقوطاً للصباح ونفياً للضياء،
لكنه ذريعة لكي نفتح أعيننا على المخفيّ قدر إضاءته
تلك دفقة شعرية من دفقات الشعر، التي تأتي كما توالي الليل والنهارات، للشاعر الفرنسي السويسري الأصل فيليب جاكوتيه، حيث تنسحبُ قصائد هذا الشاعر صوب «الصوت» أو لتكون قصائده «قصائد صوت»، تبحث دائماً عن الخفي والشائق، لكنه الذي يذهب أيضاً صوب «البسيط «ليأتي ب «ممتنعه».
وعندما سألته ذات حين، هل كان يُريد «العزلة» لإنتاج الإبداع المختلف، أو ربما كان بسبب هروب من أمر ما، حينها أجاب: «هجرتي إلى الريف الفرنسي تحديداُ، هي سعي لما يمكن أن أسميه «الهدف لحياة مميزة» فالنتاج الشعري لدي يأتي على الطريقة الكلاسيكية، أي بالإلهام.. هذه الحياة العادية والمميزة جعلتني بعيداً عن الصراعات الاجتماعية والسياسية، وحتى الأدبية وبالنسبة لي الكتابة لا تأتي بقرار، الكتابة تأتي تلقائية وعفوية.»
في ضوء الشتاء
ربما لأجل ذلك، كان الريف ملجأه، ليُعلن أكثر من عشرين مجموعة شعرية، تبدأ من مجموعة «الجاهل» قصائد 1952-1956 (1957)، و لن تنتهي عند مجموعة «العتمة» (1961)، «في ضوء الشتاء: قصائد» (1974)، «أفكار تحت الغيوم: قصائد» (1983)، «كرّاسة الخضرة» (2003)، «هذا القليل من الضجيج» (2008)، وهي جميعها أصدرتها دار النشر الفرنسية «غاليمار». فيما مجموعة «نار هادئة» (2007) أصدرتها دار «فاتّامورغانا»، وهو عمل يتعلق برحلته إلى لبنان وسورية عام 2004.
قصائد هذا الشاعر، ورغم ازدوج جنسيته، تأتي ب «بيت قصيدها» من تلك البساطة والحرية التي تكاد تكون تامة، قصيدة خاصة وبسيطة غير عابئة بتعقيدات الإنشاء، تُدير ظهرها للقواعد والنصائح والنظارات السميكة، حيث لا يخطر بذهنه شيء إلا ويصنعه قصيدة.
من يُغني هنا إذا الكلّ صامت؟
من يُغني بهذا الصوت الخافت والنقي
غناء ساحراً كهذا؟
أيكون ذلك خارج المدينة في روبنسن
في حديقة مكسوة بالجليد؟
أم إن أحداً ههنا بالغ القرب
لا يُخمن أن ثمة من يسمعه؟
لا تتحرقن لمعرفة ذلك ما دام النهار
يظل بالشاكلة ذاتها يسبقه الطائر المرئي
الصمت فحسب.. صوت يُصاعد
وكمثل ريح في آذار يُعيد للغابات الميتة عنفوانها،
إنه يأتينا بلا دموع، باسماً قبالة الموت
أفكار تحت الغيوم
هذه من القصيدة المنتجة والجميلة التي اختارها جاكوتيه بنفسه، وشاء لها أن تكون موجزة ودالة على مراحل متعددة من مسيرته الشعرية، هي «قصيدة الصوت» التي يجد من خلالها ملامحه المفارقة لكل النتاج الشعري الفرنسي، بالصوت الهادئ، الصوت الذي ينشد الامتزاج بكل ما هو إنساني، وبالطبيعة المسكونة بالذكرى، ليكتشف سر البيوت المأهولة بأنفاس موتاها، والآتية لتختلط بطقوس الأحياء، وهذا كله مُعاش بإرادة في الانفتاح والمؤاخاة ببساطة خفاء إنساني، وبلغة خالية من الضجيج، بأبسط الكلمات، وأبسط التعابير، وحتى الوقائع التي تحملها هذه الكلمات غاية في العادية اللذيذة، وكذلك الصورة الشعرية عنده، لا تخرج أيضاً عن سياقها اليومي، وإن استخدم مفردات من خارج قاموس الحياة اليومية، فإنما يُعالجها بالمعاش لتتخلى عن فراغها وزيفها، و لتصبح أشياء أثيرة لها وقعها الطيب بالنفس.
أعلى قليلا من هذا المكان ذي الأهداف النادرة،
نبحث عن السُّلّم الذي يصير البحرُ منه مرئياً
أو على الأقل سيكون إذا كان الطقس رائقاً.
سافرنا إلى عذوبة الهواء
لنسيان الموت، للجزّة الذهبيّة
على الرغم من تقدُّمنا في الطريق، بقينا على الحافّة
ليست هذه الكلمات المُتسرّعة ما يلزمنا
وليس هذا النسيان الذي سيكون هو نفسه منسيّاً
بعد قليل يبدأ المطر
لقد قمنا بتغيير العام كرّاسة الخضرة
«وكأن الشاعر فيليب جاكوتيه يعيش في برج عاجي؟» أسأله ذات زيارة له لدمشق، فيجيب: «لا أعتقد، فرغم حياتي المميزة، لكن هذا لا يعني عدم الإحساس بالهواجس الحياتية الموجودة في عالمنا وبوفرة، ذاك ما يمكن أن تتحسسه في خلفيات كتاباتي، وأشعاري هواجس قد تتجه صوب الداخل أكثر..!!»، ويضيف: «لا أستطيع أن أكتب، إلا ما تقدمه لي معطيات الحياة التي أعيشها وأعتبر ذلك مسألة أخلاقية، ولاأحشر السياسة في قصائدي لأني لا أعيشها.. أتفهم وجودها في قصائد محمود درويش نعم، لأن الرجل في داخل المعمعة، فهو يستطيع أن يتحدث عن الحرب والظلم لأنه يعيش هذه الحالات أما أنا فلا أعتقد أنه من الملائم أن أتحدث عنها.. لكن هذا لا يعني أن أنظر إلى الأمور من وجهة نظر فلسفية بحتة، أنظر إليها من وجهة النظر الوجدانية وحسب، وأتكلم عن الأشياء التي أعيشها وحسب..!!»
ومن القصائد التي قرأها جاكوتيه في دمشق:
.. لم يعد من نفَس
مثلما تكون ريح الصباح
قد دحَرتْ آخرَ شمعة
فينا صمتٌ هو في العُمق
بحيثُ نسمع حتى نيزكاً
مسافراً صوبَ ليل حفيداتنا..
alraee67@gmail.com