والمجاهرة بالثوابت الحضارية الفينيقية والبيزنطية، التي أعطته القدرة على الاستمرار، وإبراز معالم العمارة الساحلية القديمة، المرتكزة على جمالية قطع ورصف الأحجار الرملية الكبيرة، بعناية هندسية ساحرة تدخل البهجة إلى العين والقلب معاً.
استعادة الذاكرة
ومنذ أيام حداثتي كنت أتأمل طويلاً لوحة زيتية له دخلت في ملامح هذا الاتجاه، وهي لوحة (الفتاة والقارب) التي كانت معروضة بشكل دائم، في بهو المركز الثقافي القديم في طرطوس، والتي حسم من خلالها قضية التخلي عن بعض تفاصيل المنظور، لصالح إبراز أو تجسيد المشاعر والأحاسيس وروح الحركة اللونية العفوية، التي تحولت في مراحل لاحقة الى ايقاعات شاعرية مفتوحة على جمالية التداخلات الايقاعية بين المساحات وخط الرسم الذي يحدد الأشكال والرموز البحرية، التي تآلف معها الى اقصى حدود التآلف، في مراحله التشكيلية المختلفة والمتنوعة. وفي هذا السياق لا بد أن تشكل لوحاته عودة للاعتراف الفعلي باللون البيئوي، المعبر عن تداعيات الحلم وإشارات الذاكرة الطفولية، حيث الحكاية تعيده في كل مرة، إلى الإيحاءات البحرية المجسدة في ألوان لوحاته السابقة والجديدة، وفي إيقاعات الاشكال المختصرة، وفي مظاهر الرموز المستعادة كحلم ومناخ ومشاعر، كونه يرسم البحر والمراكب والصيادين والعمارة الساحلية الرملية، المستوحاة من ذكريات العيش والاقامة في مدينة طرطوس البحرية. هكذا جسد غسان جديد في لوحاته، ومنذ بدايات انطلاقته الفنية في مطلع السبعينات، الرموز التعبيرية المبسطة لتكاوين البيوت القديمة والمتحف ومرفأ أرواد والمراكب والمقاهي الشعبية وجلسات الصيادين، كل ذلك في محاولة لاستعادة طمأنينة وأمان وحميمية العيش في الحارات والبيوت المكشوفة على صفاء وشفافية وزرقة الماء والسماء في طرطوس وأرواد.
تحولات تقنية وتشكيلية
ومن الناحية الفنية يتجاوز غسان جديد من الأساس المنظور الواقعي التقليدي، ويقدم عناصره المحلية والبحرية من منظور تشكيلي خاص، شهد عدة تحولات وتبدلات وتنقلات على الصعيدين التشكيلي والتقني، فهو يجنح في لوحات الأكريليك، نحو أجواء شاعرية تعتمد تقنية التطبيع، وتتبع إيقاعات (الدائرة والقوس والمربع والمثلث وحركة الخطوط اللولبية والحلزونية) ضمن بنى تشكيلية خاصة تحددها خطوط عفوية، متجهة في احيان كثيرة، نحو التبسيط الشكلي الطفولي، الذي وجده بقوة في الاتجاهات الفنية الحديثة، أما في لوحاته الزيتية فهو يحدد أشكاله المعمارية والعناصرالأخرى، في الغالب بخطوط بيضاء على أرضية لونية خافتة أو معتمة، ويفضل في أحيان كثيرة الرسم على مساحات من الخيش، في محاولة لإعطاء السطح ملامس خشنة وناتئة، وهذا يقرب العمل أكثر فأكثر من تقنيات الرسم الحديث والمعاصر. فالأجواء التعبيرية المقروءة في لوحاته تظهر إمكانيات الاختصار والاختزال على الفسحة التعبيرية للموضوع المرسوم من مخزون ما قطفته الذاكرة البصرية، من مؤثرات لونية وضوئية قادمة من تأملات المشاهد المميزة في طرطوس، التي عرفها منذ طفولته حين كانت مياه الشاطئ البحري تضرب مع قدوم كل عاصفة باب منزل أسرته، الذي لم يكن يبتعد عن البحر -على حد قوله في حوار خاص اجريته معه - أكثر من بضعة أمتار أو خطوات.
ليل طرطوس
هكذا تشكل ذكريات طفولته على شاطئ البحر، المدخل الحقيقي لتفهم عناصر ورؤى عوالمه التشكيلية، المتجهة بشكل كامل نحو الغرابة ومعطيات الحداثة. فقد بحث غسان جديد وطوال أكثر من أربعين عاماً عن العناصر التشكيلية الحديثة، التي سجل من خلالها بتلقائية وحساسية مرهفة، خطواته نحو الرموز والألوان المتغلفة في محيط أحلام مدينته البحرية. وهذا يعني أنه يجسد في لوحاته الإيقاعات المستوحاة من عوالم العمارة الساحلية القديمة، ومن المدى الشاعري للمناخ البحري الشرق أوسطي، كل ذلك ضمن هواجس الشغف العفوي المشبع بأحلام طفولته، التي زادته جرأة في التأليف والتلوين معاً، وأعطت الحلم الفني مسافاته الشعرية، في خطوات إعادة صياغة الرموز المعمارية المميزة لمدينة طرطوس القديمة، التي تركت أثرها الواضح على نتاجه الفني التشكيلي، الذي يعيدنا إلى الماضي الحضاري، ويجمع بين معطيات الواقع وبين المخيلة الفنية.
وغسان جديد في الغالب لا ينتمي إلى فناني الظهيرة، إنه فنان غروب الشمس في طرطوس وليلها، هذا المشوار اللوني يعايشه يومياً، ولايستطيع هجرته، لأنه يشعر بالاختناق كلما زار مدينة غير منفتحة على أفق ومدى البحر. لذا فهو يرسم تماماً مثلما يتنزه مساء أو ليلاً على كورنيش البحر، مطلقاً العنان لراحة الأعصاب أمام فسحة اللوحة، وهو - وعلى حد قوله ايضاً- يحلق في الفراغ، مثل طائر يغرد فوق سماء مدينته قبل أن يغوص في الليل.
facebook.com/adib.makhzoum