وكأنما قرر بطل رواية (366)، للروائي أمير تاج السر، إنهاء عادته في اختراع الأمل.. هكذا أراد بعد مضي عام كامل في امتهانه البحث عن معشوقته التي ما كاد يلمحها في عرس قريبٍ له حتى وقع صريع هواها.
حالات من ذهول وحيرة.. وهالات من غرابة.. تعود دائماً شخصيات تاج السر تبثها إلينا وترسمها في خيالاتنا.
طوال الرواية.. التي يرويها البطل العاشق، جُعل بلقب «المرحوم»، ستعود الذاكرة إلى شخصية أخرى صنعها قلم الروائي في عمله (العطر الفرنسي)، هي شخصية علي الجرجار.
أي فرقة عشاق مجانين يبتكر «أمير سر» الرواية السودانية.. وأي عوالم يصنعها.. ويُعيد تقديمها لنا.. عوالم تُبقي شخصياته معلّقة إليها.. ملصقة إلى شبكة نسجها.. سابحة ما بين نقيضين.. ما بين الوهمي والحقيقي.. ما بين الواقعي والخيالي.. وإن كانت تنحاز لتفانين غرائبية الواقعية السحرية بعمومها.
هكذا تنفد طاقة (المرحوم) في صناعة الأمل.. المنقلب، ربما، عن أصل الوهم.. أو أيّاً كان توصيفه.. المهم يكتشف عندما تنطمس براعم الأمل أنه مجرد شخص عالق في الـ (لا أمل).. فيقرر الموت.. أما عن العاشق الآخرعلي الجرجار فينتهي به مطاف العشق إلى الجنون.
صحيح أن (366) تُغلّف بقشرة عشقية.. يُلبسها إياها الروائي.. إلا أنها قشرة لن تحول دون رؤيتنا أو استشفافنا لملامح القسوة والعنف «المعنوي» التي تحيط بالبطل.. وتملأ دنياه..
ما هذه العيشة التي تدفع بمدرس كيمياء هروباً إلى قصة حب.. في غالبيتها ليست أكثر من نسج خيال..
ألا ترون أنه بلجوئه إلى قصة الحب هذه إنما كان يصنع عالماً وردياً يوازي عالم الشقاء الذي يحياه..؟
لكن.. هل شكّل العشق حلاً.. ؟
والأصح السؤال: هل كان عشقاً أم صناعةً لمزيد من الوهم.. والوقوع في مطبّات اللاعودة إلى دنيا الواقع المُرّة.. السوداوية.. الظالمة.. دنيا تنقسم فيها الحياة إلى حي المساكن الفقير، حيث يمضي «المرحوم» يومياته، وحي البستان الغني.
يقول: «أحياناً أظن بأنني غير سوي وأن في عقلي بقعة اضطراب، ينبغي أن تعالج عند طبيب نفسي أو عالم روحاني، ثم أعود وأنتصر لحياتي الراهنة كرجل تجاوز الأربعين بقليل لم تعبر بحياته سوى النواقص التي لم تعد في نظره، نواقص أبداً بمرور الوقت»
في موضع آخريعود ليؤكّد واقع القهر بقوله: «لن أكون سوى ذلك المدرس المقهور».
وحتى ينتشل مدرس الكيمياء خلاصه وتوازنه يبدأ يحيا قصة عشقه لتلك الفتاة التي لمحها في عرسٍ كان دُعي إليه.
في سرده تفاصيل حكايته، التي يدعّمها برسائل أراد خطّها لمعشوقته طوال (366) يوماً.. تنكشف القصة عن حيوات لأناس المحيط الذي يعيش فيه «المرحوم».. وفي خضم ملاحقتنا قصة حبه نتعرف على كثير من التفريعات السردية إن كان على الصعيدين السياسي والاجتماعي لبلد مثل السودان بحدود عامي (1978-1979) العامين اللذين عثر فيهما الروائي على مخطوطات لرسائل كان أن عُنونت بـ (رسائل المرحوم إلى أسماء).. رسائل شكّلت بذرة الحكاية التي بنى عليها تاج السر عمله والذي كان وصل إلى القائمة القصيرة للروايات التي رُشحت لنيل البوكر العربية لهذا العام.
بطريقته يستثمر تاج السر عطر العشق لتلوين لوحته الحياتية التي برع، كما عادته، في نقلها.. وبالتالي ومهما كانت درجة قتامة العالم السفلي المنقول إلينا في العمل ستبقى مقبولة وغير نافرة لأنها تندرج في ثنايا قصة عشق.. وبالطبع دون نسيان أسلوبية تاج السر المطبوعة بنفحات تهكمية ساخرة.
في (366) يمضي الكاتب إن كان في سرده أو في رسمه ملامح شخصياته، معتمداً طرائقية واقعية.. تخلو من غرائبية الواقعية السحرية قياساً إلى أعمال أخرى.. فهل كان للجذر الواقعي الذي انبنت عليه الرواية، متمثلاً بوجود فعلي للرسائل ذات يوم، أثرٌ في توجيه آلية الكتابة لدى الروائي.. أم إنه اكتفى بغرائبية وجنونية الحالة العشقية التي تملّكت «المرحوم».. ؟