فهو يعني زيادة في الإعجاب والتقدير، هذا أقل ما يمكن قوله كمدخل للحديث عن أحدث أفلام ريمون بطرس التسجيلية (ملامح دمشقية).
ومنذ أيام عرض المخرج ريمون بطرس الفيلم في المنتدى الاجتماعي بدمشق بحضور لافت ربما يحسده عليه زملاء المهنة ومستثمرو الصالات المتبقية، وبالطبع يبقى لهذا الغرض خصوصيته حيث يتكون من المهتمين والعاملين في الثقافة والفنون، وسبقه في أواخر العام الماضي عرض جماهيري في الهواء الطلق على الجدار الشمالي للجامع الأموي بجانب ضريح صلاح الدين الأيوبي، فكانت تجربة فريدة أن يذهب ريمون بفيلمه إلى الجمهور بدلاً من انتظاره في الصالات المغلقة، وبهذين العرضين جمع ريمون المجد من طرفيه، الجمهور العريض في عرض الهواء الطلق والنخبة المثقفة في المنتدى الاجتماعي.
سعى ريمون عبر فيلمه إلى تكثيف تاريخ المدينة ليقدم قراءة سينمائية عن دمشق العابقة بالحضارة فتوغل في ثمانية آلاف عام من التاريخ المدون، وتناول الحقب المختلفة والحضارات التي مرت عليها وأسهمت في بناء المدينة من العمورية والآرامية والآشورية والسريانية والإغريقية والرومانية وظهور المسيحية فيها وانتشارها ومن الدولة العربية الإسلامية الأموية وصولاً إلى نهاية القرن التاسع عشر.
وقدم المخرج من خلال فيلمه صورة تتكلم بدت أشبه بحكاية درامية عن مدينة عريقة في الأصالة والحضارة، وجاءت الخاتمة على لسان شعراء غنوا دمشق في أشعارهم، واختار لخاتمته أشعارا من عيون القصائد التي تغزلت بدمشق لكبار شعراء العربية المعاصرين أمثال نزار قباني ومحمود درويش والجواهري وسميح القاسم.
في (ملامح دمشقية) يؤكد ريمون بطرس ولهه بالبحث عن الجمال الطبيعي، عن الإنسان وعلاقته بكل مكونات الطبيعة من ماء وشجر وحجر، وسبق أن تعرفنا إلى غرامه بالبحث الجمالي في أفلامه التسجيلية والروائية على حد سواء ، لنلاحظ مثلاً بداياته الأولى في قراءة نهر العاصي بفيلم الشاهد وفن النحت في فيلم أحاديث الحجر، وفي أعماله الروائية يمزج بين الدراما والتماهي في المشاهد الجمالية الطبيعية نلحظ ذلك في فيلم الطحالب عن قصص ومآس بشرية مبرزاً خلفها جماليات معالم حماة ( النواعير والعاصي) وفي فيلم (الترحال) يروي بطرس قصة نحات وعلاقته الملتبسة مع البشر والسوية بينه وبين الحجر.
ريمون بطرس يقرأ كتاب دمشق الروح والتاريخ من خلال رؤية جمالية وفنية بكاميرا تكشف عن كنوزها البشرية، مع ميل إلى المعلومات الموثقة والشرح التعليمي بالخرائط واللوحات المقربة للشخوص والأعلام الذين صنعوا مجد دمشق فكان لهم الذكر السائر عبر الأزمان.
وزاد في البلاغة البصرية للفيلم الصوت الرخيم للفنان طلحت حمدي الذي كان يتناغم مع الصورة، ويتصاعد مع تصاعد أحداث التاريخ، وبما يشكل دراما حقيقية، حيث التشويق عنصرها الأساسي .
وإلى جانب التاريخ الموثق بالتعاون مع العلماء والباحثين يذهب ريمون إلى الأسطورة، بل بها يبدأ فيلمه عندما يتسلق جبل قاسيون ويصور الأماكن الأولى للمسكن البشري كالمغاور والكهوف ، ويسرد أساطير متوارثة حول مواقع الجبل كقصة قابيل وهابيل وأول دم سفك على وجه الأرض.
ويحكي بشيء من التفصيل عن دور دمشق في انتشار الديانة المسيحية من خلال شخصية شاؤول الذي جاء إلى دمشق على رأس جيش للقضاء على المسيحيين، ويهتدي قبل أن يدخل دمشق ويصبح بولس الرسول.
ومع وصول العرب المسلمين إليها يعود لدمشق وجهها العربي من جديد، ويبدو بطرس هنا توافقيا في سرده للأحداث ويؤكد أن ما أورده يستند إلى العديد من المراجع التاريخية والمؤرخين الثقاة لتبرير ميل أهل دمشق إلى العرب الفاتحين فكانت اليقظة اليعربية الأولى في بلاد الشام.
وقد أعطى المخرج لقاسيون حيزاً لافتاً من الفيلم، كما أخذ الجامع الأموي جانباً لابأس به، ولم يأت هذا التعاطف مع هذين المعلمين كنزوة جمالية أو ثقافية، فهو ينطلق من الارتباط الوثيق لدمشق بقاسيون الحارس الأمين للمدينة، والأموي الذي أضاف شهرة رابعة لدمشق كما قال بانيه، إلى جانب الهواء والماء والثمرات.
في النهاية هناك بعض الملاحظات ، ولكن ليس من المناسب أن نذكرها، فأي سينمائي يريد أن يتحدث عن مدينة عمرها عشرة آلاف عام، لا يمكنه أن يمر عليها بسهولة ولابد أن يحدد اختيارات صعبة لصنع فيلم مدته ثلاثون دقيقة، كنا نتمنى مثلاً أن تظهر صورة الشعراء وأسمائهم على الشاشة وهم يتغنون بدمشق، وكنا نتمنى أن تذهب الكاميرا إلى معالم شهيرة داخل السور وبجانبه، وأن يبتعد عن الأسطورة لمصلحة الوثيقة المتفق عليها علمياً، لكن لا يمكن أن نحاسب المخرج على منهجه وخياراته في تناول الموضوع لأننا كمن يريد إعادة صنع الفيلم، وهو مطب نقدي نربأ بأنفسنا عن الوقوع فيه، وكان المخرج صادقاً مع نفسه ومع مشاهديه عندما عنون الفيلم بملامح دمشقية.
ويبقي فيلم ملامح دمشقية بمضمونه وشكله العام فيلماً جميلاً وشفافاً يستحق التقدير، ونشد على يديه، كما تستحق الجهات التي أسهمت في صنعه الشكر.
بطاقــــة:
سيناريو: ريمون بطرس
قراءة التعليق: الفنان طلحت حمدي
الاستشارة التاريخية: للدكتور عبد العزيز علون
مدة الفيلم: اثنتان وثلاثون دقيقة
إنتاج : وزارة الإدارة المحلية بتمويل من بعثة المفوضية الأوروبية في سورية ضمن برنامج تحديث الإدارة البلدية في سورية.