وليس جميع الاختلاف يؤدي إلى الصراع والتنافر والإلغاء..
والولد ليس إلغاءً للأب، والحفيدة ليست تمرداً على الأم أو الجدة..
حسناء أو أمّ لبابة تعتبر الحفيدة المميزة في عائلة أم يوسف، التي تختلف بطبعها عن أمهات اليوسف الأخريات، من حيث حدّة الطبع، وحكمة الحرص، والدقة في البيع والشراء، وترتيبات الأغراض والحاجات.
أم يوسف جدّة بامتياز لها مواصفات الجدات العتيقات: تلبس المزيد من الأثواب، حتى اشتكى أبو يوسف غير مرة من كثافة ثيابها: لاتصل أطراف أصابعي، إلى الجهة العليا من صدرها إلا بشق النفس، وبعد صبر ومحاولات.. وإن أسعفني الحظ وحسن التدبير ووصلت أطراف الأصابع، لابدأن تصطدم برأس الدبوس الحامي ورابط الجأش، الذي يربط (الجزدان) بالقميص الداخلي، أو بواحد من القمصان الداخلية العديدة.
والجدة العتيقة تبرر لنفسها وللجيران وللحفيدات كثرة الثياب وتعدد القمصان الداخلية والخارجية. المرأة تحتاج ثوباً خارجياً وثوباً ثانياً والثوب الثالث تضع في جيوبه الحاجات والمفتاح، أما القميص الذي يأتي تحت الأثواب، لاغنى عنه، لصد البرد من جهة، وفصل القمصان عن الثياب الخارجية، لأن القمصان تميل إلى سرية الجسد ولاينبغي لأحد أن يطلع عليها إلا القريبات، وأحياناً تتمكن أصابع الزوج الشجاعة من اقتحام حصون القمصان، وتجاوز رأس الدبوس رابط جأش (الجيب) الداخلي، أو حارس (جزدان) الليرات أو مايشبهها من النقود.. الحفيدة حسناء كالجدة وأكثر من جانب ومن جانب تفنّنت بالأناقة، وحال اللياقة وتدليل الرشاقة، والابتعاد عن الحماقة.
ولا تبخل على ملامحها بالابتسامات والضحكات الناعمة، التي ترشها ببراعة كما يرش الفلاح البذار، وكما يقدر النبع حاجات الجريان والضفة.
يصحّ بها وصف الشاعر:
(بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها)
فيها مافي الوردة من دقة أوراق ونعومة عطر، وفيها ما في الغيمة من حضور مُبهج.. وفيها أنوثة عالية الأداء والأبهة، كقرية تحمل على كتفيها الرياح والأغصان والثمار والحب والحرص والتآلف.
حملت من الجدة شجاعة خاصة، وحازت من الجد ملامح البشاشة والمقدرة على السخاء والأريحية، التي لاتتعدى الحب والإخلاص للسعادة ورغم كل المشقة وقسوة الواقع بقيت أميرة ببهاء محرر من التصنيع وقيود التكلف: ابتسامتها تنطلق بريئة حنونة، وكلماتها لاتخفي أي خداع أو عيب..
ولم تصادق كثافة الأثواب وتعدد القمصان الداخلية، بل تحررت من الكثير من ترتيبات الجدة اللباسية، بحيث اجتهدت بارتداء القمصان القادرة على مصادقة البهجة وفتنة الأنوثة، وسبقت الجدة بالقراءات والمصافحات الجديدة، والاكتشافات الإنسانية.
يقتصر نشاط النساء في القرى العتيقة على ترتيبات حياتية، تبدأ بحياكة ديباجة العمر وشبك خيطان العيش، وترقيع قماش السنوات والعلاقات العائلية والقرابات والجيران، وغير هذه من ديباجات وخيوط لاتتعقد كثيراً..
المدينة كتابها واسع، وديباجة نسائها تولي عمر المرأة وخصوصية أنوثتها ووجودها أهمية وحياة أكثر منها في القرية، وهذا ما أوحى للحفيدة حسناء أن تحيا بعذوبة ونضارة، وأن تتعالق مع معطيات الأناقة واللباس والحب والحنين بتجدد وبراعة..
لتقوي به.. قريباً من بيتها المشرف على الزرقة وغواية صحراء الماء المترامي، كخيال لايحده الخوف، نهضت بناية واسعة عالية، أو كانت ناهضة، من قبل، ولاحت لعينيها، والتقطتها حاسة انتباهها، كما يلتقط طائر الدوري حبات قمح فالتة من قيد كيس كبير: ماهذه البناية الضخمة ذات الشبابيك الزرقاء؟ لا بد أن أسأل لبابة عن البناية؟! أو أسأل صديقتها رندلى، التي تعرف المدينة شارعاً شارعاً وحارة حارة.. عاشت فيها أيام الطفولة، وقرأت فيها الدروس.. ولعلها تعلمت في نفس المدرسة التي تعلمت فيها جدتها أم زيزفونة.
قالت: ليس الأمر صعباً..
والسؤال أجرأ من الصمت..
بسؤال جيد يصل الإنسان إلى العديد من الإجابات والفوائد.
ولم تنس بين سؤال وسؤال وتأمل وتأمل صورة الجدة وديباجة عمرها المتروكة.. ولم تنس فن الحرص وبراعة التدابير المعيشية، التي لاتخنق علاقتها بالتدابير النفسية بحيث يكمل الواقع مانسيته الروح أو.. المساء متحالف من الحبر وكنايات الزرقة والتأملات..
ولبابة تلميذة لم ترسب في أي امتحان من امتحانات الحسن والترتيب و»الهندمة« عالية الجودة..
خرجت من الغرفة، والأم لم تبرح كرسيها.
وقبل العتبة بخطوة أو خطوتين وقفت رندلى..
الأم والبنت والصديقة دخلن في حوار الألفة النابغة، التي لاتخطىء في نشر وتوزيع مؤلفات الرقة والطيبة والأنوثة المشبعة ببلاغة خاصة، كبحر متمرس بالوداعات والانتظارات وأحوال الغياب والحضور.
(رندلى) لاتقل بهاء وبساطة ذكية عن لبابة، وهذا ماتقوله حسناء الأم لبنتها:
تحبين رندلى، لأنها تتشابه معك... وتسهب: قرأت يوماً كتاباً عن الصداقة يؤكد أن الصديقة تتشابه مع صديقتها في التفكير والطبع، وأنت طبعك مثل طبعها، وروحك قريبة من روحها، لكنها أكثر منك تريثاً في بث أفكارها.
هي كأمّها، وأنت كأمك
وتوقفت الأمّ من جديد أمام سؤال جديد:
-البناية التي أمام بيتنا من يسكنها؟ لبابة اكتفت بالتأمل.
ورندلى سرقتها دهشة الألفة، والصورة الكبيرة التي تحتفظ بها الأم على الحائط المواجه للشرفة أعادت السؤال:
هل هي مدرسة جديدة؟
أجابت لبابة:
قد تعرفين بعض سكانها..
وشاركت رندلى في التوضيح:
هي مقرّ شركة بحرية..
والعاملون فيها من المدينة والسهل وأرواد والقرى القديمة..
وقت المدى مفتوح على العديد من التأويلات والرؤى والذكريات..
ووقت الاشتياق متواشج مع أي وقت آخر، وهذا ماحرض بها رغبة الدردشة.