أم في ما صدر عن «دمشق عاصمة الثقافة العربية» أم في غيرها..ومع احترامنا لأصحاب تلك الأحاديث أو المقالات فإن البعض منها لم يخرج عن كونه احتجاجاً شخصياً أو احتجاجاً بالنيابة، ومع ذلك فهي بمجملها آراء صحيحة تناولت الموضوع من زوايا كثيرة لم يكن يجب اغفالها.
وإنني هنا إذ أبدي رأياً في تلك «المعمعة» أجدني مدفوعاً إلى القول: إن الشعراء أو الأدباء الحقيقيين غير معنيين بهذه الانطولوجيات لأن الشعر يظل شعراً ولا يقلل من قيمته إذا أغفلته أنا أو غيري، ولا يؤذيه أن يغفله أو يتناساه هذا الكاتب أو ذاك ممن اختاروا القصائد والأسماء لأن المتنبي وأبا تمام والبحتري وأبا فراس الحمداني وقبلهم عمالقة الشعر الجاهلي وصدر الإسلام والأموي..وصولاً إلى العصر الحديث ظلوا أعلاماً على مر العصور لم تنقص من قيمتهم الابداعية والفنية والتاريخية «انطولوجيا» أو مقالة هنا ومقالة هناك، فقد أبدعوا روائعهم وناموا ملء عيونهم عن شواردها بينما سهر الخلق وهم يختصمون ويتناقشون حول فحواها وروعتها كما قال المتنبي:
أنام ملء عيوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
قد يقول قائل: لربما لم نعرف المتنبي لولا الذين جمعوا شعره وأرخوا له وهذا صحيح لكن تلك «الانطولوجيات» ليست ضرباً من ضروب التأريخ أو ليست تأريخاً حقيقياً للشعر أو الأدب بعامة..هي اختيارات شخصية لمناسبة ينساها الناس بعد أن تنقضي! وإلا فما معنى أن «دمشق عاصمة للثقافة العربية» قد نسيها الناس، هذا إذا كانوا قد ذكروها أصلاً أو سمعوا بها لولا بعض وسائل الإعلام التي أغفلتها هذه الاحتفالية.
هل يحط من قدر شاعر كبير كبدوي الجبل إذا أغفلته تلك «الانطولوجيات» وهل ينال من المكانة الحقيقية لشاعر مثل عمر أبي ريشة ونديم محمد إذا نسوهما مصادفة؟ وهل يقلل من قدر حامد حسن ووجيه البارودي وكثير غيرهم إنهم لم يخطروا في بال دارس ما؟
إن موضة الانطولوجيات التي شاعت في الآونة الأخيرة ليست تأريخاً للشعر كما قلنا قبل قليل وهي بشكل أو بآخر رأي بذله بعض القيمين عليها، وهي للحق وإن لم تكن قد أرضت البعض فإنها حفلت باختيارات موفقة ولربما هي أفضل بكثير مما انطوت عليه أنشطة الأمانة العامة لدمشق عاصمة للثقافة والتي على الأغلب انحصر نشاطها بالأقرباء والأصدقاء والمقربين أو ببعض المقاهي التي لا تتسع رواد أي مركز ثقافي بل إنها لم تعن معظم رواد ذلك المقهى الذين لم يقطعوا تسليتهم ليلتفتوا إلى ما قيل فيها على جلالة بعض أنشطتها المحدودة التي اضطلع بها بعض الأدباء والباحثين والكتاب.
وليس عيباً في تلك الانطولوجيات بما فيها ما صدر عن «كتاب في جريدة» أن نسيت أو تناست ربما عدداً كبيراً من الأسماء الجديدة مع أن لأصحابها مجموعات شعرية عديدة..فما كل من طبع على نفقته مجموعة شعرية صار حديث الساعة أو يجب أن يكون الشغل الشاغل للناس.
ولا بد هنا للانصاف من الإشارة إلى أن عامل الوقت لربما كان السبب الرئيسي في ما حصل ومع ذلك كانت تلك الجهود اختياراً شخصياً فيه عدد من الدارسين الجيدين اختياراً لأسماء ما وليس يعيبها أنها نسيت أسماء أخرى فهي أولاً وأخيراً ليست عملية احصائية بل جهد شخصي وإن اشترك فيه مجموعة..وهي بالتالي محاولة انتقائية لا يؤثر إغفالها لعدد من الأسماء في المنتجات الابداعية بعامة، فالعمل الحقيقي في هذا المجال هو للباحثين والدارسين المتأملين الذين لا يكونون أسرى الوقت بل هو أسير أعمالهم المتأنية الناقدة الدارسة وغربلتهم الصحيحة لأكوام ما تنتجه المطابع شهرياً إن لم نقل أسبوعياً.
وقد يقول قائل إن هذه الانطولوجيا أو تلك قد حابت فلاناً أو تلطفت مع فلان وفلانة..وهذا بديهي في كل عمل سريع، فالأديب الذي يعرفه الدارس واطلع على حياته وأعماله قد يبدو له أنه يعرفه أكثر من غيره فيوفر عليه صعوبة البحث والسؤال شريطة أن يمتلك هذا الأديب حداً ما من مقومات الابداع.