ودفع بها في كراس إلى صديقه الشاعر وصفي قرنفلي ليكتب لها مقدمة فاستجاب هذا الأخير وأنجز المقدمة المطلوبة على طريقته.
لكن عبد السلام في حالة من حالات اليأس التي تصاحب المرضى الميئوس من شفائهم عادة أحرق كل أوراقه بما فيها المجموعة الشعرية المعدة للطبع وقد يكون أيضاً أحرق المقدمة التي كتبها وصفي لها قبل وفاته عام 1954 بمدة قصيرة وكان له من العمر «اثنان وثلاثون» عاماً
ولا بد لنا من وقفة أمام قضية الإحراق هذه نستجلي ظروفها ونستعرض حيثياتها قبل إثبات المقدمة المذكورة وسنورد في هذا الصدد رأي أحمد الحاج يونس أولاً فيها إذ يقول: بيد أني أقف وأحب أن يقف معي غيري عند مقولة الإحراق، إن الإحراق يعني لحظة عاصفة من اليأس عند الشاعر أباد فيها شعره وأنا لا أوافق على مثل هذا الاتجاه، ولقد زرته قبل وفاته بقليل فكان شجاعاً ومتماسكاً وتحدثنا ولم يعان أي خوف من الغد ولم يكن في حالة يائسة تشير إلى رجل متهدم أو أنه أقدم على حرق شعره بطريقة انتحارية وبالطبع فما كان لأحد أن يسأله عن أمر هذا الإحراق، والناحية الأخرى في موضوع الإحراق هو أن الشاعر كان مقلاً شديد الاصطفاء، فالاستنتاج إذاً للتبرير أنه أحرق شعره وليس هذا بالاستنتاج السليم لأن الذي أحرق هو عبد السلام، لو وقع ذلك وأنا أبرئه منه ولا أبرئ سواه لا سعياً وراء الخيال الأفلاطوني لتبرئته، وليس في الإحراق مذمة له لو فعل ، فأمام الموت يفعل المرء ما يشاء مما يتعانق مع عناصر الفناء والدثور ولكن لأن عبد السلام لم يحرق ، ذلك كل ما في الأمر ثمة شيء ضاع من شعره فإن كان من المبتدأ به فنحن معه حتى لا يؤخذ عليه ضعفه وإن كان من الجيد الثابت فهو ليس الكثير.
سؤال وحيد يجب أن يلقى: أين أوراق عبد السلام ودفاتره وكتبه؟ هل احتفظ بها أم أتلفت أم وزعت؟ ففي كثير من الحالات يبدو كل شيء حتى لو كان ليس بذي قيمة فلقد اعتاد الباحثون في الغرب على ملاحقة ما ترك صاحب الأثر فيأخذون من تعليقاته وهوامشه الشيء الكثير وحتى جرة القلم تحت كلمة واحدة في كتاب تعني وجهة نظر قارئها ومدونها، ذلك ما يمكن أن يستفاد منه ولو ترك الشاعر في أعقابه شيئاً على كل حال ليس من أحد يجزم بوجود آثار أدبية أحرقها الشاعر.. انتشرت الشائعة تلك بقوة أثناء مرضه، عندي وأنا قانع بهذا الرأي أن له انتاجاً محدوداً، على كل حال وقد يكون هذا النتاج ذهب مع أوراقه التي أتلفها قبل وفاته وهذا الإتلاف افتراض لا أكثر إذ إن لكل امرئ أوراقاً يتلفها ولا بد أن من بينها شعراً ،وهنا نستطيع القول إن هذا الشعر قسمان: قسم مبتدئ لا يعول عليه هو لا يريد نشره وهو وإن نشر فلن يرضى عنه القارئ وإنما يلصقه به ويحسبه عليه، وقسم ثان جيد، لكن هذا الجيد على الغائب قليل.... إذن لابد من شعر قد أتلف وهو قليل، وإذا كان الافتراض - كما قلت - ليس ملزماً في النقد والبحث والدراسة فلنستمع إلى قول الآخرين.
وإذا شئنا الانصياع لرغبة الحاج يونس في الاستماع إلى قول الآخرين، فها نحن نستمع إلى واحد منهم، وهو الشاعر نصوح فاخوري إذ يقول: وبعد وفاته بأيام علمنا أنه أحرق جميع أوراقه الشعرية والنثرية لأنه كان يرى أن هبة الحياة التي حرم منها مبكراً أعظم من هبة الخلود وفي فترة يأس، قام بإحراق أوراقه وعافت نفسه البائسة مايسمى بالخلود.
المهم.... أحرق الشاعرأوراقه أم لم يحرقها...أتلفها أم لم يتلفها، كلها أو بعضها،فإنتاجه بشكل عام محدود- فلقد ضاعت المقدمة التي كتبها وصفي للمجموعة المعدة بين أوراق عبد السلام فيما ضاع من مخلفاته أو أحرقت إذا صحت مقولة الإحراق، وقد حاول الأول (أي وصفي) الذي احتواه فراش الشلل مدة ست سنوات في بدايات مرضه أن يستعيد في ذاكرته تلك المقدمة الضائعة لأنه لم يكن يحتفظ بنسخة لديه منها حتى يمكن العودة إليها والاطلاع عليها، فأملى ماتذكر منها مختصرة على الصديق المشترك لعبد السلام ووصفي وهو عبد البر عيون السود كمايلي:
«الشعر ليس الوزن والقافية..!
إذن؟
فن....
وابتسم صاحبي وأغضى
تعبير قديم
ولكنه ظل لفظة حتى هزه لبنان فكان.... واستحالت اللفظة إلى نماذج... إلى واقع حي... وكان صمت... صاحبي مستغرق يفكر ويوازن وأنا أحيا الصمت كالحلم.
وهذه مشكلة...!
فاستيقظت... وعاد يقول:
لنعرف نسبة القصيدة، كل قصيدة، إلى الفن، وجب أن نتفق على مدلول واضح محدود اللفظة «فن»
إننا لن نتفق... لأنك لست أنا، ولأنني لست أنت، والإنسان كل إنسان، لايصلب، ولايجد إلا نفسه في كل لفظة وكل حالة، ولكل نفس أفق... ولكل أفق نفس، ولكن لكل لفظ مدلول إجماعي مصطلح عليه....
أبداً... إلا في اللفظ «المقيد» مما يدخل في نطاق الحواس كالخبز والحبر... وهذان أيضاً يتفاوتان مفهوماً.
إذ يدق - في ذهن كل منا..!
ولكن لابد لنتفق من تعريف..
إليك به إذن... الفنون مهما انشعبت محاولة للتعبير بالجزء عن الكل أو تكثيف الكل في الجزء....
وهذا الكل...؟
- الطبيعة.. كل الطبيعة.. عالمه الخارجي، والنفس، كل النفس، عالمه الداخلي.
- ما أسرع ماتقفز..
وأطرق يفكر.. وأطرقت أحيا الشعر في انسراح الذهول:
بعيداً إلى حيث تفنى الحدود
وتنهدّ أجنحة الموكب
- سؤال أخير.. -؟.
- مامكان الشعر من أخواته الفنون: الموسيقا.. والتصوير.. التمثال..
- اسمح لي أن أضيف «الهندسة» إلى هذه الأسرة فتكتمل.. أما مكانة الشعر من كل ذلك فهي المنطلق.
الشعر منطلق الفنون، في كل منها بعض منه، وفيه من كل منها لمحة ودم..
- أوضح..
- لا أقتل الفن.. حسب الفن إيماءة، كالظل في اللفظة لاتفصح..
- ياضيعة الوقت.. سألتك إيضاحاً فزدتني إبهاماً..
- وقديماً قلت الأربعة لا تسع التسعة، وقال أخ من لبنان: لا يفهم الشعر إلا الشاعر..
- وما نحن والشعر..؟
- قلتها مراراً.. لاشعر في ماضينا - الطويل العريض- بل حداء على طريق الشعر، وليست أبجدية، الشعر الشعر ذاته..
- ألا نقوله يوماً..
- قالته لبنان.. وغداً يقول التاريخ: ظلت العربية تهذي حتى قالت الشعر..
- وهذا الـ «مع الريح»؟.
- استجابة للمدرسة اللبنانية الحديثة وانفلات كالبراعم على طريق الفجر..
- أتحسبني أستطيع القول إني فهمت، خطوط.. وظلال.. ولون وجرس ولكن البعد..
- لابعد.. ولاقبل..
-وكذلك لافكرة.. ولامنطق.. ولا اكتمال..
- وهكذا الفن.. ومن هنا الشعر..
أهذه مقدمة..).
لم يقيض لعبد السلام أن يرى ديوانه مطبوعاً في حياته كما نظمه وصنفه وشاء له أن يكون..إذ طاش سهمه في لحظة غضب ويأس وزهد واستسلام، كثيراً مايعاني منها الأدباء والفنانون الحساسون فأحرق أو أتلف كما أسلفنا ما بين يديه من نتائجه إذا صح ما أُشيع عن ذلك- ولعلنا هنا نتذكر أبا حيان التوحيدي وحرقه لعدد من كتبه- وعندما أصدرت وزارة الثقافة والإرشاد القومي بدمشق أكثر ماكان منشوراً من شعره و نثره المشهورين في الصحف والمجلات وبعض ماكتب حوله تعليقاً أو ذكريات في كتاب تحت عنوان «مع الريح» عام 1968 كان لكاتب هذه الأسطر مقالة فيه نشرتها إحدى الصحف الحمصية في بداية الستينيات من القرن المنصرم خرج للأسف كتاباً ضامراً بمئة وعشرين صفحة من القطع المتوسط لايعبر عن منزلة الفقيد ومكانته المرموقة في خريطة الشعر السوري الرومانسي في الخمسينيات التعبير المناسب عن استحقاقه وقيمته الأعلى على الرغم من أنه مطبوع طباعة فاخرة أنيقة على ورق صقيل ممتاز ومزين بالرسوم واللوحات الفنية الأخاذة، وبريشة الفنان إلياس زيات إذا صدق حدسي وصحت ذاكرتي لكن تبقى الوزارة مشكورة على عملها الطيب بإصدار هذه الآثار في وقت مبكر نسبياً إذ لولا مبادرتها تلك لطوى الزمن نتاج الشاعر وتحيفه النسيان،إلا أن هناك عدة ملاحظات يمكن أخذها وتسجيلها على هذا الكتاب قد يكون أهمها مايلي:
1- إن الكتاب لم يضم مجمل آثار عبد السلام الشعرية والنثرية فهناك قصائد ومقالات كان يمكن بقدر من الجهد العثور بها وإضافتها لما كان معداً للنشر ولم تكن من بداياته، كما أن الكتاب أهمل شعره «الواقعي» وأسقطه وغطى عليه وأبرز شعره الرومانسي فقط وهذا يعد نقصاً فادحاً كان على المشرفين المهتمين بأمر إصدار إنتاج الأديب الراحل أن يتفادوه حرصاً على نقل صورته الأدبية كما كانت عليه في أرض الواقع، وفي هذا الصدد يذكر نصوح فاخوري هذه المعلومة « وهناك بعض الأشعار جمعتها أنا والأستاذ عبد القادر الجنيدي ولكن المكلفين بطبع ديوانه- ومنهم عبد البر عيون السود- حذفوا هذه الأشعار لأسباب أجهلها، وأعتقد لأنها لاتتفق مع أسلوبه الأخير الذي انتهجه في مرحلة نضجه ولأنها من ناحية المضمون لاتتفق مع شعره الغنائي الوجداني الذي استقر عليه فيما بعد والذي اقتصر ديوانه المطبوع عليه، وأذكر أن عبد السلام كتب كثيراً في أول نشأته ولكن كان- كما حدثني مراراً- غير راض عن أشعاره الأولى لأنها «تقليدية» جداً في زعمه، ومن جهتي لم أطلع على هذه الأشعار، إلا أنني أستذكر أنه كان ينشرها في صحف (القبس والأيام..) على ماأظن.
2- على الرغم من قلة القصائد المثبتة في الكتاب « ثماني عشرة قصيدة ومقاطع صغيرة حاصل أبياتها كلها حوالي مئة وخمسين بيتاً» فإن الشعر فيها غير مضبوط بالشكل حتى في الكلمات الضرورية الضبط في بعض أحرفها، بله النثر..!
3- إن التواريخ التي ذيلت بها القصائد ينقص بعضها التثبت والصحة والتدقيق، ففي جزء أشرنا إليه غير مرة في أثناء مطالعاتنا السابقة لشعره خطأ في تاريخ هذه القصيدة أو تلك قد يوقع الدارس وربما القارىء في مزالق الأحكام النقدية والانطباعية إذا اعتمده في دراسته أو قراءته.
4- خلا الكتاب من المقدمة النثرية التي كان الشاعر وصفي قرنفلي قد أعدها لديوان عبد السلام وأثبتنا نحن نصها في مكان سابق من هذه المقالة، وكان يمكن بشيء من العناء إثباتها في الكتاب المذكور خاصة أنه صدر عام 1968 أي في بدايات ملازمة وصفي لفراش المرض، وقد يكون تذكره لما جاء فيها خلال تلك السنة أو قبلها أقوى وأوثق وأصح وأكثر مطابقة للأصل لو بذلت هذه المحاولة.