خلخلتُ الحجارةََ والغبارَ عن جسدي، وخرجتُ إلى الحياة. بهرني ضوء النهارِ, تذكرتُ لحظتَها أنني عنترةُ بن شداد. أدهشتني مظاهرُ الحياةِ الغريبة، سمعت حصاني الأبجر يصهِلُ بجواري, فوجدتُني أذكر حبيبتي عبلة, صرخت: أين مضارب عبلة؟ حينها حدثَ ما لم يتصورْهُ خيالٌ، إذ فتحَ الحصانُ فمَهُ وناجاني قائلاً بسخرية: أين أنت وأين عبلة؟ عبلةُ لم تعدْ في المضارب يا سيدي، هي الآن تقطنُ في شارعِ العشاقِ، في الطابقِ الخامسْ، وهي عندما تراك ستلعن الساعةَ التي أحبتك فيها.. لقد تأخرت يا سيدي أكثر من قَرنٍ ونصف..
ذهلت لمنظر الحصان، وهو يحدثني. سألتُه: أو تتكلم أيضا أيها الحصان؟! حمحم وقال: ألستَ أنت القائل: لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى.. ولكان لو علم الكلام مكلمي؟
فامتطيت ظهرَهُ وقلت له: خذني إلى بيت عبلة, يكاد الشوق يضنيني.. يا ألله ما هذه الحياةُ الغريبة؟
راح حصاني يشرح لي مظاهرَ الحياةِ الجديدة، رأيت الناس يمتطون حيوانات ساحرة.. أسماها حصاني السيارات، ومع اقترابي من المدينة، كانت تتبدى لي مظاهرُ الحياةِ الغريبة! وسط الضجيجِ والغبارِ والصراخِ وهديرِ السيارات، ومناظرِ البشر الغريبةِ، والناسِ اللاهثين.. فجميعُهم يتجادلونَ، وهم يشترون ويبيعون، وجميعُهم يتذمرونَ من الأشياء ذاتها، وعندما سألت حصاني عما يفعلُه هؤلاء القوم، قال: إنهم (ينقّون..) سألْتُه: عما تعنيه هذه الكلمة, فقال، بحيث لم أفهم شيئا: النق من النقيق, والنقيق من النقنقة، والنقنقة هي صوت الدجاجة الجائعة، وكل هذا يعني أن الحياة لا تعجبُهم.. انظر.. كلُّ الناسِ رحلوا من القرى إلى المدينة, وهجروا حقولَهم ومواشيَهم.. وكلُّ إنسانٍ يريدُ أنْ يمتلكَ كلَّ شيء، ويشتري كلَّ شيء بأثمانٍ رخيصة.. دون أن يعملوا شيئاً.. كلُّهم لا يعملون شيئاً سوى النقيق.. ويريدون كلَّ شيء جاهزاً.. السيارات والبيوت والحليب واللحمة والخضار.. وكلَّ شيءٍ.
جميعُهم يلهثون وراء الرفاهية المزيفة.. يتمنون أن تمضي حياتُهم، وهم يرفعون أقدامهم في الهواء.. وتكبر كروشُهم.. ويصبحونَ ملوكاً.. قلت: وماذا تعني كلمة كروش؟ فقال: الكروش تعني كل هؤلاء الذين تراهم أمامك..( ينقّون ) ثم يمتطون سياراتهم، ويتذمرون من الحياة.
مرت بجانبي فتاةٌ متبرجةُ، ذُعرتُ لملابسها الفاضحةِ فصرختُ.. وافضيحتاه.. وا ذلاّه!! واعرباه!! أين الأخلاق؟ فقهقه حصاني, وازورَّ إلي, ولكن ليس من وقع القنا بلبانه بل من وقع الفجيعة في ضلوعه، وقال: هذه المبادئُ، والأخلاقُ، تركتها وراءك يا سيدي منذ قرون في جدث صحرائِكَ العتيقةِ..
فجأة، قام أحد الشبان بالتحرش بالفتاة، بحركة مشينة، صرخت أين الرجال الشجعان؟ ثم مددت يدي لأستل سيفي، فوجدت أصابعي تقبض على شيء صغير( أعزكم الله..) أسماه حصاني الموبايل، وقال لي: يمكنك أن تتكلم الآن إلى عبلة! هتفت متعجباً من هذا الشيء الصغير, فقال لي نعم، ولقمني رقمَ عبلة، وما إن سمِعْتُ صوتَها حتى استشعرتُ: يا دار عبلة بالجوار تكلمي.. وعم صباحا دار عبلة واسلمي
انتظرت أن تبادلَني عبلة ببيت من الشعر يلهُب عواطفي، إلا أنني فوجئت بزعيقها يشق أذنيَّ وهي تصرخ بي بكلمات غريبة: ( لك أكثر من ألف وخمسمئة سنة غائب يا حقير، تركتنا أنا والأولاد للهواء الأصفر؟..)
ثم أمرتني بصوت غاضبٍ أن أذهبَ إلى مركزِ الهاتفِ والكهرباء والماء لأدفع ما أسمته بالفواتير.. وأن أعرِّج إلى السوق لأشتري اللحمة والخضار والحليب..و..و..و.. و حفاضات للصغير.. ثم ذيلت ملحمتها تلك بعبارة..( ولك يخرب بيتك أنت رجال أنت؟!) فوجدتني أرمي ذلك الجهاز، وسط دهشتي وصهللة حصاني الساخر...
عبَرت الشوارع، وجدت الناس ما زالوا ( ينقّون..) ثم يمتطون سياراتهم، ويقودونها بملامح قاسية صارمة.. كتجار مخدرات، كما قال حصاني، ثم يدخنون، وتكبر كروشُهم في الحال.. ورأيتهم يقفون بانتظار دورِهم للحصول على أشياء أسماها حصاني المناقيش والسندويتش.. ورأيت مظاهر أخرى جعلتني أبكي.. فها هو رجل يمسك بجهاز كونترول, ويمضي ليلته عابثاً، وذاك يجادل زوجته وأولاده وجيرانه، وهاهنا تقام حفلات لمطربين ومطربات يجأرون ويزعقون ومع غياب الشمس كانت الأصوات تعلو.. وتعلو.. وتختلط بهدير المركبات.. وجحيم هذه الحياة!!
عندما وصلت مساء إلى شارع العشاق، قال حصاني: هاهنا بيت عبلة، ولكن عليك أن تجد لي مربطاً، نظرت حولي لأجد مكاناً لأربط رسن الحصان، فوجدت الشارع ممتلئاً بالسيارات.. وقد ركنت وراء بعضها بطريقة مغيظة!
ذهبت إلى الشارع الآخر، فوجدتُه مزدحماً أيضاً.. كان الليل قد بدأ يسدل أنفاسه, حين وصلت إلى حارة أخرى، وجدت شوارِعَها تغصُّ بالسيارات أيضاً، فتشت المدينة كلها، ولكن هباء، ثم قررت أن أذهب به إلى الصحراء، ولكنني لم أجد موطئ قدم.. حتى في الصحراء!!
وقفت حائراً أتساءل.. وفجأة هبط أمامي شيء كبير جعل الرعبَ يدبُّ في أوصالي.. فتساءلت مستغرباً: أأنا عنترة بن شداد أم مجرد صعلوك؟! هذا الشيء أطلق عليه حصاني مركبة فضائية، هبط منها إنسان غريب، أسماه حصاني الروبوت.. سألني بأحرف متقطعة: هل تريد مربضاً لحصانك يا سيدي، هتفت بلهفة: نعم.. نعم.. يا أخا الروبوت، فقال: هناك زريبةٌ على المريخ بنجمتين، وإسطبلٌ على كوكب بلوتو بخمس نجوم، ولكنني أنصحك بإسطبل على أورانوس بعشر نجوم مع سهرة لفرس راقصة، ووجبةِ علفٍ لحصانك في مِعْلَفٍ من مرمر.. قلت: خذه أنى تريد.. ولكن خذه، وخلصني منه الليلة... فأنا بشوق لعبلة.. وبحركة عجيبة حمل الروبوتُ الحصانَ وقفز به إلى المركبة، ثم عاد وقال لي: أعطني ألف دولار.. سألته، وماذا يعني هذا؟ فقال: ( يعني فلوس.. مال.. دراهم.. دنانير) فقلت وأنا أبسط كفي العجز: ( والله ليك يا أخا الروبوت من شوي طالع من القبر.. وما بملك غير هالكديش.. الله يعزك)) فقال الروبوت وهو ينطلق بمركبته، ويمد رأسه من النافذة: إذاً سآخذ الحصان، ثمن مبيته الليلة في أورانوس...
فقدت حصاني.. نظرت حولي.. ما زال الناس ( ينقّون..) وأصواتُهمُ المُزعجة تثقب أذنيَّ.. ووجدت نفسي غريباً, وقد أضعت الطريق، لكن كم فرحت حين رأيت قبري على بعد خُطوات مني، اقتربت منه، نزلت فيه، أعدت شطائح القبر واستلقيت، عندها اختفت الجلبة والأصوات المنكرة، وهدير السيارات، وثرثرات البشر، شعرت بالدفء، أغمضت عيني بهدوء, تنهدت وأنا أقول: لا مكان أكثر أمناً ودفئاً وهدوءاً من هذا المكان..