هكذا بأعجوبة غادر المارد قمقمه كارهاً الظل, والنفس العفن ولعنة سجنته عمراً في الأعماق, فقرر زيارة الأرض .. إنه الوحيد الذي يمتلك صفات لا يحفل بها غيره فهو ومض يجعله (يرى ولا يُرى) لا أحد ينتبه لوجوده لا سلطة لأحد على ماضيه, أو حاضره, لا تسجنه الأوطان, ولا يغريه الانتماء, إنه ببساطة حر في كل أمر.
تجوّل في الشوارع والأحياء, في المدن القصية, في الأزمنة المعقولة وغير المعقولة, حاول أن يحاكي قصة أرادها أو تمناها, لكن ثمة كآبة اعتصرت روحه عندما أدرك أن الأساطير لا تزور الأرض كثيراً .
حين باغته الجوع ويبس الماء في عروقه, قرر الاستراحة قليلاً, وطار ليحط في أقرب مقهى. وقف على الباب كلونٍ يحاول ولوج لوحة .. لا شيء استرعى انتباهه غير ذلك الرجل القصي المزروع أمام طاولة صغيرة. لا أحد سواه يبدو وحيداً ومنسياً وفائضاً عن حاجة الكوكب البائس. يبدو في العقد الرابع من العمر, تعتلي الهموم محياه.. وتستقر على مفرق الشعر, فتنثر ثلجاً غادر القلب واستوطن الرأس ..أشبه برقاص ساعة لا يطال سماء, ولا يطأ أرضاً لاهو يرقص وليس مشنوقاً .
يرتشف من فنجان قهوته المرة بتتابع رتيب, ويزرع نظراته في الشارع المقابل للواجهة البلورية يراقب المارة ...السيارات ..الأضواء, خطوات متسارعة وأخرى متباطئة وأحياناً حائرة ..لاأحد يكترث لشقائه, فاستل ورقة وخط عليها: ( أنا بعض احتراق نصف غابة حائرة بين الضوء والغسق). أصغى المارد إلى صوت أعماقه .. كان يفكر في منزله النائي, بزوجته التي حولتها الأيام من عروس بحر إلى سفينة صماء لا روح فيها. يتسارع إلى ذهنه مشهد صراخها ولهجتها القاسية المتطلبة كجيوش تحرق أرض الهدوء والسلام. يعود يتذكرها في اللحظات التي تعاود أنوثتها, وتبدأ الاتهامات أنه لم يعد يحبها, ما عاد يشتاق لوجهها, ماعادت تغريه ابتسامتها, ويقف مستكيناً أمام سيل الأسئلة عن سبب تأخره وشروده الدائم عن وكيف ولماذا, وألف ألف علامة تعجب واستفهام بالرغم من إخبارها مراراً انه مازال يعشقها في برد الشتاء وشرر الصيف, بانطفاء الرماد وثورة الجمر...و كل ذلك دون جدوى.
يتذكر جارته (سمية ) الضاجة بأنوثة جارفة, كيف تلقي التحية صباحاً بهدوء النبوة, تنتظر السيارة كياسمينة غادرت تربتها, وتأخذ قلبه معها حينما تمضي كدفق عطر, ويتمنى لو أن أعجوبة تحول زوجته إلى بعض (سمية ) .
يطرق المارد أمام أفكار الرجل الملول ..يأخذ الورقة من أمامه ويخط عليها: (السعادة في حديقتك لا تبحث عنها في حديقة الغرباء). يقرؤها الآخر مصعوقاً باليد التي كتبتها, بينما خطوات المخلوق الغريب تترك أثرها في أرجاء المكان.
يجلس المارد على ضفة نهر, يستجمع قواه, يفكر في الذهاب إلى مكان أكثر فرحاً !
يباغته صراخ حاد, وجلبة, يحاول اقتفاء أثر الصوت إلى أن يصل إلى مكان شديد البياض: الأسرة البيضاء, والملابس أيضاً وفي الجو رائحة حموضة الأدوية والدماء ..
يدس نفسه بين جمهرة تنتحب.. الزوجة تبكي شريكها الفاقد للوعي إثر خلل في عمل القلب! الأم المفجوعة تنتظر ابنها بحرقة وخوف فراق تظنه وشيكاً .. الأخوة يتحركون كنحلة برية تراود خليتها عساهم يحققون انتصاراً لحياة أخيهم. وعلى مسافة غير بعيدة تقف امرأة في ريعان البحروالزبد, تبكي بألم جارف وصامت. يقترب منها يهمس في أذنها ..مَن أنت؟
خُيل لها أنه صوت القدر فأجابت :- أنا هوى تجسد في آدمية أنثى, أنا المحكومة بالظلمة.. حياتي أشبه بفيلم كاميرا يقتلني الضوء, ويغتالني العلن.. انظر كيف يتجمعون حوله.. وأنا لا أقدر على الاقتراب خطوة بعد .. أنا رفيقة لحظاته الصادقة, مَن تهواه إلى آخر قطرات الياسمين.. ضبطتُ زمني على وقع خطواته, وتجهش في بكاء مرير لا تستيقظ من نوبة شجونها ودفق وجعها إلا على صوت الممرضة تطلب دماً يوافق دمه ..
تركض بلهفة سنونو إلى ديارها لا تغيب أكثر من دقائق, لتعود مهزومة كنهار باغتته العتمة,
تهمس بحنق وألم: أيها الحمقى كيف تقولون أن دمي سلبي.. إنسان يحمل كل ما بداخلي من حب وشغف, لا يمكن أن يكون دمه إلا إيجابياً وأكثر مما تتصورون. عاهدته مرةًَ أن أعطيه دمي لأبقى معه, وأسكن حجرات قلبه.. ملعونٌ مَن صنّف الدماء.. وقال إن دمي سلبي! يهمس المارد في أذنها: أتعجب من عشقك؟
ترد عاطفتها: ما من علامات ترقيم بين القلب وشغافه, أوتسأل حقل قمح إن كانت تشقيه السنابل الملأى؟
يصمت المارد أمام أنثى ارتمى القمر في قلبها, واستحم في عمق عينيها, بينما شفقة تتسامق في روحه على فراشة تهاجم اليد التي تبعدها عن النار.
يغادر الكائن اللامرئي كنسمة بحرية تترك أثراً دون أن تُمس. بعدها تجول في الذاكرة البشرية, في دواخل الناس, حينها تشظت روحه دهشة وألماً, فقرر العودة إلى عالمه تاركاً آلاف الحكايا تنتظر مهدياً يسرج عتمتها إلى مسرى الضوء واللون .