فهل نجد علاقة ذلك القول بشاشة التلفزيون التي تعلق بها معظم البشر؟
المحطات الفضائية على كثرة تعددها نقلت فنوناً من العالم وإنجازات علوم من عمق البحار إلى أبعاد الفضاء، ومن باطن الأرض إلى مجاهيل جسد الإنسان. كما أنها قدمت مآسي الحروب وهجرات شعوب ظلماً ومجاعات الناس وأمراضهم القاتلة. فما أثر تلك الحكمة فينا؟
نقف احتراماً للفنون التي تسعى إلى الإتقان وتبتعد عن الانحراف والابتذال، نهلل لها بالإعجاب والأقوال. وندهش لتقدم العلوم التي تفوق معرفتنا، فنحيي بالكلمات والذهول مما قدمته تلك الإنجازات.
ومن طرف آخر، نشجب الحروب وغيرها من المآسي الإنسانية، نهتف ضدها باللعن وأقسى الألفاظ، إلا أننا نعجز حتماً عن الكلام إذا ما حصلت المأساة إلى ذروتها، فآنذاك تضيق العبارة.
وكانت الواقعة الأخيرة من سلسلة تخصص في صنعها الحقد الإسرائيلي الذي تفوق على غيره، فهو يخترع نقمةً على ماضٍ يصح الشك في حقيقته لتحصل على انتقام من الحاضر، ولربما من مستقبل قادم.
آخر الحقد كان في (غزة) ذلك القطاع الذي حشر فيه الشيوخ والأطفال والشباب، قطاع سدت عليه المنافذ، حتى البحر أطبق عليه برماله ومائه، فلا وقود ولا دواء والطعام بالقطارة. وكانت شاشة التلفزيون تطلع علينا كل يوم بمشاهد البؤس، فلا نملك من أمرنا شيئاً سوى أن العبارة ضاقت واتسعت الرؤية.
سياسيون ومنظمات في العالم أقاموا الدعاوى على مجرمي الحرب الإسرائيليين في محاكم دولية، بينما رؤساء دول عربية لم يحركوا ساكناً، فكأنهم يدافعون عن الجريمة ولربما لم يسمعوا بها، أو أن الشاشات لم تصلهم أخبارها فحولوا أبصارهم وآذانهم إلى مجامع الغناء والمسابقات، ويقال بهذا الشأن إن الرؤية عندهم قد ضاقت.
كانت حروب الماضي تعرف بقتل البشر بالرمح والسيف، أما هجوم سنوات الحاضر على غزة والعراق وغيرها فكان بنسف البيوت بسكانها، وكانت الطائرات ترشهم بالفوسفور الأبيض وتوقف الحياة بالليزر وغيره. وكانت المدافع والأسلحة الرشاشة التي تشبه الألعاب الإلكترونية تحصد البشر دون تمييز.
وإذا كان مسلسل القتل قد تجاوز بحلقاته العدد المقبول تاريخياً وفنياً ورقمياً ومنطقياً، فإن مشهد التفكك العربي (هل كنا متماسكين) بالرغم من وجود بناء للجامعة العربية بلجانها الدائمة واجتماعاتها الدورية، مازال حاضراً في الواقع وعلى شاشة التلفزيون، إلا أن التفكك مستمر.
كان ملوك الطوائف في الأندلس قد بشروا بانهيار الكيان العربي فيها، إلا أن التفكك في عصرنا الحالي سيسمح بتغلغل إسرائيل، لذا سيقال إن الرؤية إذا اتسعت اختفت العبارة في صدر من يحاول أن يقولها، إلا أن المقاومة إذا استمرت وقويت فلن يكون هناك اختفاء للعبارة ولا الفعل.