والآلية الصارمة في إعادة إنتاج النصوص بصيغ لا تكف عن التحول والتلون، لكنها في الوقت نفسه لا تستطيع تجاوز صياغات مجموعة من المفكرين الذين رسموا الخطوط النهائية للفكر النقدي الحديث. لقد تحولت القراءة إلى حالة من مؤسسة لإعادة إنتاج وتصنيع مجموعة قليلة من الأفكار. وتحول الأدب إلى طريق تسلكه الممارسة النقدية باتجاه واحد.
ولكن ماذا نعني بالقراءة هنا؟ أية قراءة يجب أن يتوقف عن ممارستها كل من يدرس الأدب؟! إنها القراءة التي تتخذ شكل آليات تطبيق نظريات ومنهجيات جاهزة.. إنها القراءة التي تتخذ من ماركس، ميشيل فوكو، جاك دريدا أو فرويد أو غيرهم لكتابة نصوص نقدية عن نصوص إبداعية دون أن تنتج معرفة حقيقية بها، دون أن تمارس قراءة فعلية للنصوص الأصلية ودون أن تنجز اكتشافاً واحداً يتقاطع مع النص الإبداعي.. إنها قراءة فقدت الحرية وتخلت عن موهبة الدهشة لصالح علاقة طوطمية مع رموز المؤسسة الأدبية السائدة. إنها قراءة تحاكي النموذج الاجتماعي في طريقة تطويعه وقولبته للنزعات الفردية عند البشر.. وهنا تحديداً يجب أن ندعو للتوقف عن القراءة.. فالقراءة كانت في أحد طرق ممارستها طريقة لخلق توازنات بين التجليات الفردية للوجود الإنساني وبين عوامل القمع والتحكم التي يفرضها الوجود الاجتماعي. والمدرسة هي الشكل النموذجي لهذه الحالة الصراعية. نحن نقرأ في المدارس ما يساهم في تعزيز قابلياتنا للانسجام والتشابه مع المجموعة الثقافية التي ننتمي إليها، وهنا تقوم المدرسة بدور حاسم في إنتاج نظام معرفي وأخلاقي متصالح مع ضرورات الوجود الاجتماعي..
لقد أدت عملية التراكم في تاريخ النقد والممارسة النقدية إلى نشوء تراث كبير أصبح بالضرورة يثقل أعباء أي ناقد في عمله. وفي العصر الحديث الذي كرس النقد كاختصاص أكاديمي وكحقل مهني أصبحت علاقة الناقد بتلك الكتلة الهائلة من التراث النقدي علاقة مؤسساتية إلى حد بعيد. إنها علاقة تشبه في جوهرها علاقتنا بالمدرسة ونحن أطفال نتوق إلى المعرفة ونتعذب في نفس الوقت في ممارسة التبعية لمؤسسة تنظم قراءتنا وفق آليات محددة، صارمة ومسبقة.. وفي حقيقة الأمر ثقافة القراءة ترتبط دائماً بخصائص ومعطيات اجتماعية لا يمكن تجاهل دورها في تحديد وتأطير عملية الاستقبال والتذوق. ولهذا فإن أي قراءة لعمل أدبي ما تتقاطع بالضرورة مع معطيات الفضاء السياسي-الاجتماعي الذي تتم فيه هذه القراءة. لكن الواقع الكوني المعاصر خلق عوامل جديدة وغير مسبوقة تساهم إلى حد كبير في ربط القراءة كممارسة فردية مع الفضاء الجمعي. ويتعلق الجديد هنا بالواقع الإعلامي وبالثورة التي حدثت في توافر المعلومات وتبادلها.
لقد غادر الكتاب نتيجة للواقع الثقافي والإعلامي الجديد جدران المكتبات وأصبح سلعة. بالطبع كان الكتاب سلعة من قبل، لكنه تحول اليوم إلى سلعة كونية وأصبح مادة وموضوعاً للنشاط الالكتروني على شبكة الإنترنت. وفي هذا الفضاء المفتوح تعمل مؤسسات اقتصادية ضخمة في مجالات النشر والإعلان والتسويق على تكريس عناوين وأسماء وقوائم تمثل اتجاهات وحساسيات وأفكار. في هذا الواقع أصبح القارئ أقل قدرة على الاختيار وسط هذه الكثافة الهائلة في الاختيارات المتاحة من الكتب. ولعل قوائم الكتب الأكثر مبيعاً والتي تصدر عن مؤسسات إعلامية ترتبط بعلاقات وثيقة باقتصاديات الإعلان والتسويق ما هي إلا آليات جديدة لتكريس ذائقة أو حساسية أو آلية قراءة ناتجة عن ضرورات جمعية اقتصادية وثقافية وسياسية، وليس عن ضرورات فردية.
هل يمكن إدراك منطق ما يحكم الذائقة الأدبية المعاصرة؟ هل نحن في عصر ذهبي للقراءة؟ لم يحدث في التاريخ من قبل أن توفر عدد كبير من الكتب والإصدارات كالذي يتوفر بسهولة في عصرنا. ولكن مع ازدياد التعدد والانتشار تزداد صعوبة الاختيار. ماذا نختار ومن أين نبدأ؟ هذه هي ورطة القارئ المعاصر، وفرة الخيارات وتحدي ممارسة الحرية الفردية في القراءة. تكمن المفارقة في أن القارئ الجدي لا يستسلم بسهولة إلى توجيهات السوق الأدبية التي تفرضها قوائم التصنيف والاستطلاع على الذائقة. إن ما يكون مكتباتنا هو الشغف ومغامرة المعرفة ومتعة القراءة وليس استطلاعات وسائل الإعلام ودراسات مؤسسات النشر والتسويق. وربما كانت حريتنا في اختيار كتاب نقرأه هو آخر أشكال الحرية المتبقية لنا.
وتبدو مشكلة الحرية في ممارسة القراءة الفردية أكثر عمقاً وخطورة فيما يتعلق بعمل الناقد. فالناقد مهدد بفقدان الدهشة وبالتخلي عن مهمة الاكتشاف والإضاءة. إن غياب الفردية في ممارسة القراءة مطب يقع فيه معظم النقاد اليوم. وهنا لا بد من التنويه إلى الوضع الخطير الذي يهدد المؤسسة الأكاديمية بالتحول إلى متحف للأفكار والصياغات المقدسة! إن الجامعات مطالبة اليوم بالتحرر من سوق الأفكار والمنهجيات، وإلا تحولت إلى مؤسسات لإنتاج غربة جديدة في عالم الأدب، غربة النقد عن النص الأدبي وغربة النص الإبداعي عموماً عن ثقافته وعن بيئته، وفي النهاية عن قارئه.
• ناقد أمريكي. عن مجلة كرونيكال الثقافية الأمريكية.