وما مضت لحظات على تلك الحالة حتى انفتحت عيون السماء على مداها، فصارت تضخ الأنهار في مزاريب ربطت السماء بالأرض..! ومثل لمح البصر امتلأت الطرقات والأزقة الترابية بمياه حمراء أخذت تتدفق في الاتجاهات كلّها..!
في ذلك العام، عام الفيضان الكبير، يتابع دياب المحمود حديثه، واصفاً السيل وما ألحقه بالناس من ضرر، فيقول:
كنت في ذلك الوقت، أقصد حين جاء السيل، في أراضي الثلاثين من عمري، أكبر قليلاً.. أصغر قليلاً.. لا يهم، فموضوعنا هو السيل الذي جاء قوياً غزيراً.. لم تر البلدة في تاريخها الطويل مثله أبداً..!
أدخلنا الأولاد والدجاج والحيوانات كلاً إلى مأواه أو زريبته، وأخذنا، نحن الكبار، نقوّي أسس الجدران بمزيد من الطين، نسدّ به بعض الفتحات التي كانت الجرذان والأفاعي قد حفرتها أوكاراً وجحوراً، وعمّقها الأولاد بجهلهم وعبثهم.. لملمنا كذلك كلّ ما يمكن أن يعرقل جريان الماء لئلا يميل على البيوت الواهنة أصلاً..!
لكنّ المياه التي تضاعفت بسرعة جنونية، سخرت من أفعالنا الطفولية، وجعلتنا نتخلّى عنها لننشغل فيما هو أكثر أهمية..!
كان السيل القادم من نواحي التلال والمرتفعات يجرف في طريقه كل ما يستطيع حمله من أحجار وأوحال وغصون أشجار وجثث حيوانات نافقة..! وكان ذلك يعرقل سير الماء في الأزقة الضيقة، فيرتفع فوق جدرانها القصيرة الواطئة، لينحدر بعدئذ إلى داخلها.. فصار الماء ينصبّ على البيوت، كأنّما، من سماوات متعددة، وكذلك من شقوق وثقوب غير محسوب حسابها.
لم تطل الحال كثيراً حتى أخذت تلك الأكواخ تتداعى وتنهار، فعلا الصياح أشكالاً وألواناً.. نداءات استغاثة ودعوات استرحام وتلطف..! وكثر البكاء والعويل.. وحتى القطط والدجاج والحيوانات الأخرى بدا من أصواتها وحركاتها أنّها تستجير.. تركنا كلّ شيء من أيدينا، وركضنا نحو الأولاد، نسينا الحيوانات والأشياء، صار الأولاد همّنا، لا نعرف كيف نحميهم، ولا أين نضعهم، فالماء والبرد صارا يأكلان في أجسادنا وأشيائنا.. وتعبت أرواحنا بسرعة وخصوصاً حين أخذت جدران البيوت وأسقفها تتكوّم فوق بعضها..!
حملت الولدين الكبيرين على كتفي، وتركت الصغيرين لأمهما، فتدبرتهما بطريقة عجيبة، واحد التصق بصدرها، والآخر تكوّم تحت إبطها متمسكاً بكتفها وعنقها، بينما تدبّر أكبر الأولاد نفسه بنفسه دون أن يبتعد عنّا..! ورحنا نتقرب بالأولاد ومن خلالهم إلى الله العلي القدير، ونرجوه أن يوقف هذا السيل المطري اللعين.. وبالفعل لم تمض ساعة ونصف الساعة تقريباً حتى بدا أن الرجاء، رغم كل الفوضى الناشئة بين الأرض والسماء، ورغم الخراب الذي شمل المكان كله، قد وصل إلى غايته، وأنّ الله سبحانه وتعالى قد استجاب لدعائنا ورجائنا، فأخذت حبال الماء بين السماء والأرض تتقطع رويداً.. رويداً.. وأخذت أنهار الماء والوحل تغادر الأزقة على مهل..! لكن الكثير من الأبنية الطينية كانت قد تحوّلت إلى أكوام من الطين، ومنها من غادر مع السيل، فلم يبق له من أثر.. ومن ذلك بيتنا الذي اختفى من أمامنا، إلا جدار واحد بدا وكأنّه قد تعاطف مع جدار آخر استند إليه، فتحامل الأول على نفسه، وتثبت بالأرض ليشكل مع الآخر المستجير مثل خيمة أو فجوة، سوف تكون كلّ منزلنا وملاذنا في الأيام القادمة.
في الأيام التي تلت تلك الكارثة مرّ صديقي أبو صبحي مرجان من جانب الفجوة التي هي بيتنا، فراعه ما نحن فيه من ضيق، وما أنا فيه من انعدام حيلة، وبعد سلام وكلام وسؤال عن الأحوال التي لم تحتج مني إلى شرح وتفصيل، عرض عليّ أن يأخذني في مشوار معه، فلم أمانع، قلت لعلّ في هذا المشوار منفعة لي، والغريق يتعلق بعود من قش..!
كان المشوار إلى صاحب له في سوق البلدة، وما هي إلا سويعة حتى جمّع أمامي حمل حمار من بضائع مختلفة فيها السكر والشاي والتمر والإبر والخيوط والكبريت والصابون ولوازم قروية أخرى كثيرة..!
أشار أبو صبحي إلى البضاعة، وقال لي:
ما عليك الآن يا دياب غير أن تحمل هذه البضاعة، وتذهب بها إلى القرى الفلانية وسمّاها لي واحدة.. واحدة، تفحصت أكياس البضاعة فوجدتها ثقيلة الوزن، فوقفت أتأملها لفترة لاحظ أبو صبحي حيرتي وضعفي فقال:
ـ ألا تستطيع تأمين حمار..؟! كدت أقول:
ـ من أين يا حسرة..؟! لكنني تمتمت:
ـ سأحاول..
ـ ولا يهمك.. قال أبو صبحي، ثم غاب فترة قصيرة.. عاد بعدها يسحب حماراً، لا بأس عليه. تعاونّا جميعاً على وضع البضاعة في الخرج الذي على ظهر الحمار، التفت أبو صبحي إليّ وقال: لتنتبه يا دياب فالحمار إعارة، لا تحمله أكثر مما حملناه، وكان يقصد ألا أركبه مع البضاعة.. وافقت بالطبع، إذ صرت بين لحظة وأخرى تاجراً مهماً، وكمن فطن إلى شيء قال:
ـ انتظرني لحظة وغاب قليلاً ثم أتى بصرة قدّمها لي وهو يقول:
ـ هذا الخبز يوصلك لأول قرية وبعدها تتدبر أمرك، ولديك تمر في خرجك. أما التاجر أبو صبحي صديق صديقي فقد قال نسيت قلظة الماء، ودخل إلى الدكان برهة ثمّ عاد يحمل قلظة مملوءة بالماء. والقلظة اسم تركي لكيس مصنوع من الجلد والكتان السميك يحفظ الماء بارداً ويستخدمه الرعاة في العادة.
ـ لن أصف لكم رحلتي يا إخوان، قال ذلك دياب المحمود، ثمّ أضاف:
ـ وهي على كل حال لم تكن صعبة إذا ما قستها بالوضع الذي أنا فيه.. فقد كانت أكثر يسراً مما كنت أتصوّر، والحقيقة أن أهالي القرى الذين زرتهم، ما إن عرفوا أنني أحد المتضررين من السيل، حتى بدؤوا يسهّلون مهمتي فكانوا يشترون زيادة عن حاجتهم ودونما مفاصلة ولا مبازرة بل كانوا يزيدون فيما يقدمونه من بيض أو صوف أو دجاج بدل البضائع التي يشترونها..!
في اليوم الثاني كنت قد بعت كلّ الذي حملته وقد ربحت ما جعلني أفرح من قلبي، ولم لا أفرح ما دمت قد أمنت طعام أولادي لأيام قادمة، وسوف أكون موثوقاً لدى التاجر صديق صديقي الذي سيحملني مرة ثانية، وربما ثالثة ورابعة فالمهم أن أحاسبه في كل مرة.... لم أترك الأحلام تعبث في مخيلتي كثيراً..! فمثل ربحي هذا لا يجلب الأحلام الكبيرة، ولكنني، في الحقيقة، كنت مرتاحاً، بل أستطيع القول:
إنني كنت مبتهجاً، إذ استطعت، بما قدّم لي من مساعدة، أن أبعد شبح الهمّ عن نفسي وعن نفس أمّ أولادي التي أظنها كانت تحمل من الهموم ما لا أقدر على حمله..!
والحقيقة أنّ شعوري بالبهجة أخذ يتنامى في نفسي كلما ازددت اقتراباً من البلدة، وحتى الحمار بدا لي انّه مبتهج إذ تسارعت خطواته.. فصار يخبّ كأنما هو مهر أو حصان..! وعند ذلك، أيضاً، راح قفص الدجاج يهتز ويتراقص فوق ظهر الحمار.. فهاج ما بداخله وماج وصرت أسمع قرقرة الديكة والدجاجات..! من دهشة أو خوف لا أدري.. في تلك اللحظات، يتابع دياب المحمود حكايته، فيقول:
خطر لي خاطر إذ قلت لنفسي لماذا لا أذبح لهم ديكاً للأولاد ينسيهم ما هم فيه، ثم حاولت اختيار الديك المناسب من بين تلك التي وضعتها بعناية في القفص، ورحت أراقب حركة الأولاد وهم يتناهشون لحمه الطري بين هرج ومرج لكنني، وبرغم النشوة التي غمرت روحي تلك اللحظات، تراجعت عن فكرتي وأنا أقول لنفسي:
ـ التاجر المبذر منذ الربح الأوّل هو بالتأكيد تاجر فاشل.. لتضبط نفسك يا دياب، ولتمسك يدك، وإلا تبهدلت مع الناس، ولعلك في السفرات القادمة تعوّضهم فتذبح لهم أكثر من ديك، أما الآن فيكفيهم بعض البيض والتسلي بالفرجة على الدجاج، فرؤيته وحدها تجلب الراحة والمتعة..!
حين دخلت البلدة كان الوقت عصراً، ويبدو أنّ أجواء أواخر نيسان قد دفعت السيد رئيس البلدية لجلسة سمر أمام دار البلدية. وما الذي يمنعهم..؟ فالسيل لم يأت على بيوتهم الحجرية المرتفعة..! كان رئيس البلدية يتصدّر المجلس وهو على كرسي كبير ذي مسندين خشبيين وقد وضع إحدى يديه على مسند الكرسي في حين كانت الأخرى مشغولة بالنرجيلة، ألقيت السلام عليهم فلم يأتني رد من أحد، ولعلّني لم أسمع، لكنني، في اللحظة ذاتها، سمعت بعض الهمس وكأنما أحد يسأل عن هويتي.. أليس هذا فلان..؟! وأعقب ذلك صياح خرج من عدة أفواه بآن واحد:
تعال يا دياب..! التفت نحوهم فوجدت الأيدي مرتفعة تلوّح لي تعال.. تعال.. أوقفت الحمار جانباً وتقدمت. سلّمت فردوا السلام هذه المرة، وبادرني رئيس البلدية:
ـ أنت دياب المحمود..
ـ نعم، يا بيك، أنا هو..
ـ أين كنت يا بني؟ شرحت له حكاية السيل والبيت والبضاعة والحمار ودور صديقي وصديقه، وأنني ذاهب، بعد الذي قمت به بمساعدة أولاد الحلال، لأفرّح أولادي وأمّهم. فقال وقد أخذ هيئة الجد والمسؤولية:
ـ لكن يا ابني في عليك ذمة «زفتية» لم تدفعها للبلدية..!
ـ إن شاء الله ندفعها يا بيك..!
ـ لا.. لا يا ابني قال رئيس البلدية بكل حزم ثمّ أضاف:
هذا دين الحكومة يا ابني ودين الحكومة حرام تأجيله..! وأشار إلى بعض زبانيته فتراكضوا نحو الحمار، وساقوه نحو اصطبل البلدية ومستودعها، ومثل وميض ذلك البرق، صار الحمار والحمل الذي على ظهره من أملاك البلدية وأربابها..!