لكن لوركا كان في بلاد تعيش أجواء سرابية من قصص الحب اللاهبة والعنف المترافق مع الحروب الأهلية في إسبانيا والأسطورة الخالدة في ذاكرة شعبه، لذا اضطر إلى أن يشرب من ينابيع الخيال القريبة من بيته، لتغزو قصائده الأمزجة الثائرة، وتعود إليها الشبيبة ضمن نوستالجيا الصراع من أجل الحرية ربما إلى اليوم، وهو خلال قيامه بالكتابة يتمسك بثقافته الأسبانية أولاً، ويدخل كنه الحداثة دون قصد منه! حين اعتمد على تجربته اللغوية التي قامت على نكهات محلية جداً تبنتها فيما بعد ذائقة متنوعة من جميع أرجاء العالم، مع تلك الإزدواجية بين عالم واقعي يتصل به اتصالاً وثيقاً، وبين خيال يجنح نحو عوالم شديدة الغرابة.
في هذا السياق ينبغي علينا أن نتذكر أن خصائص البيئة السورية لا تقل شغفاً عن أجواء (لوركا) الذي استلهم من التاريخ العربي أيضاً قصيدته (ثامار وآمنون) عن قصة بكر أبناء الملك داوود (آمنون) الشهيرة. حيث هام آمنون حباً بأخته غير الشقيقة ثامار، فتصنّع المرض، وراح يلتمس من أبيه الإذن لأخته بعيادته في بيته، لتعدّ طعاماً اشتهاه، فاستجاب أبوه لملتمسه، وأذن لابنته المضي إلى بيت أخيها، وخلال مكوثها فض آمنون بكارتها على نحو مخز، فولت هاربة وهي تحثو التراب على رأسها وترسل صيحات الاستغاثة، فآواها شقيقها (إبسالون) في بيته مضمراًً الانتقام من أخيه آمنون، وما لبث أن قتله خلال مأدبة أعدها له، وتقول القصيدة:
لقد حلمت ثامار
بعصافير في جيدها
على نقر دفوف قارسة
وقيثارات ملونة بالقمر
إن عريها فوق الرواق
رأس نخلة دقيق
تلتمس ندف ثلج لبطنها
وبرداً لمنكبيها
غنت ثامار فوق السطح عريانة
فحفت بقدميها
خمس حمائم متجمدة
رنا إليها آمنون الأهيف العتيّ
من أعلى البرج
توتًًَّر عريه الملهم
فوق السطح
وأوشك حفيف سهم أن يتسمر
بين أسنانه.
ذلك أن المطبخ الإبداعي لدينا، في سورية وربما في العالم العربي أيضاً، لا يفتقر إلى البهارات الحرّيفة التي تصعد بدهشة الغرب عالياً اذا ما قررت كتابتنا استثمار التناقضات التي نعيش. لكن العطب في المخيلة الشاردة نحو الغرب، الملام، أيضاً، على استمراره في طريق الاستشراق حتى عهد الأقمار الصناعية، والهندسة الوراثية، فهو لم يتمكن بعد من نزع ألف ليلة وليلة من نظرته إلى أدبياتنا.
لوركا نجح بتحرير الشعر الإسباني قبل أن ينال لقب شاعر الحرية، الأمر لا يعني أنه كان سلبياً حيال المذاهب التي كانت سائدة آنذاك، بقدر ما كان بفطرته يأبى التقليد والمحاكاة. ببساطة كان يدعو إلى مذاهب أدبية جديدة، منبثقة من صميم الروح الإسبانية نفسها، وبالتالي تمكن العالم من النظر مجدداً إلى عدالة قضية الحرية هناك من وراء كلمات الشاعر الصادقة والمنبثقة من بيئته. يقول على لسان إحدى شخصيات مسرحية (ماريانا): “وما الإنسان دون حرية يا ماريانا، ودون هذا الضوء الثابت المتناسق الذي نشعر به في أعماقها، وكيف يسعني أن أحبكِ إذا لم أكن حراً؟ قولي لي: كيف يمكنني أن أعطيكِ هذا القلب القوي إذا لم يكن ملكي”. ربما هذا ما نحتاجه الآن: الاقتداء بتجربة الشاعر النادرة في الأزمنة الغابرة، أي تحرير الشعر الحديث من العبثية والزوغان، والمضي به نحو الجملة الواضحة والمتينة التي تقول أنفسنا والبيئة الغنية التي ننبثق منها، تماماً كما فعل الشاعر الإسباني مع ثقافته المحلية آنذاك.
لقد كان تصديه جريئاً لمشكلة التعبير الشعري، والقيود التي فرضت عليه، فالشجاعة كانت خياره في سبيل الحرية التي آمن بها كهدف إنساني نبيل يطمح إلى بلوغه، فاستنزفت قلمه ودماءه إلى أخر قطرة. فصنعت منه الجموع راية نحو جنة الخلاص، وأيقونة لكل الشعراء والكتاب الأحرار آنذاك... ليسقط أخيراً، يسقط الشاعر الملهم جثة هامدة، لقد شهد محبوه على هذا الموت المبكر 37 عاماً، واعتبروه الكارثة الحقيقية، حيث اغتيل في أتون الحرب الأهلية الإسبانية 1936.
موهبة لوركا جاءت في الوقت الذي كان الشعب يتوق الى من ينقل مآسيه إلى العالم، ويغير الأحوال المتردية والبؤس والفقر الطاغيين، حتى إن كان ذلك التغيير في الشعر فقط. استفاد من رونق التعبيرية في عصره وأحسن في تصوير عالمه الذهني الخاص، فالكلمة الموحية التي تميز بها كانت غير قابلة للتقليد على كل حال، رغم جميع المحاولات الفاشلة التي جربها البعض، لأنه قد نقلها أساساً من أغاني بلاده ورقصاته الشعبية ووظف الكثير منها في المسرحيات والأغاني الشعرية (أغان غجرية) (قصيدة الشمس) (فن البانتيرا التخطيطي):
أزهقت في الدارة البيضاء
أرواح البشر
وثبت مائة مهر
فقضى فرسانها.
من ظلال وارفة منسلّة
أقبلت من الأفق المضطرب
فانقطع لحن القيثارة.
وثبت مائة مهر
فقضى فرسانها...
وذلك قبل أن ينتقل إلى السريالية، من خلال الحقبة القصيرة التي قضاها زائراً في أمريكا الشمالية وكوبا وشغلت مخيلته حياة الزنوج وموسيقاهم.