ومنذ ذلك الحين وهو يساهم في الحركة المسرحية مخرجاً وأستاذاً في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق،
ويدرّس الآن مادة الإخراج في الكويت. أشرف على العديد من مشاريع التخرج. شارك في العديد من المهرجانات المسرحية ومثّل المعهد في ثلاث دورات لمهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، نال جائزة أفضل تقنية عرض.. أخرج حتى الآن أكثر من خمسين مسرحية موزعة بين المسرح الجامعي والعسكري والقومي ومسرح الطفل وفرقة المعهد، نذكر منها: أنشودة أنغولا، قصة موت معلن، الآلية، جنكيزخان، السيمفونية الهادئة، المرحوم، عائلتي، كل شيء في الحديقة، الدب، ميديا، أوديب ملكاً، السيدة المتوحشة، غني وثلاثة فقراء.. كما أنه أخرج ثلاثة عروض للأطفال: الأمير الصغير، الصياد والملك، والطائر الناري.
تحدث مانويل عن حادثة أثرت في حياته تأثيراً كبيراً، وغيرت منحى تفكيره، فيما بعد، حيث قال: «ذات يوم كنا نتحدث عن قضية فيتنام دون خلفية سياسية، كون القضية كانت حديث الشارع آنذاك، وخلال الحديث دب خلاف من نوع التحدي بيننا كالعادة نحن الشباب، قال أحدهم: إن فيتكونك عاصمة فيتنام الجنوبية. وقال آخرون لا، إنها عاصمة فيتنام الشمالية، هكذا كانت السذاجة تلف أحاديثنا، فجأة دخل أخي الكبير، وسألناه أن يحكم بيننا على أساس أن فيتكونك عاصمة فيتنام دون جدال، لكن الخلاف حول «هل فيتكونك فيتنام عاصمة الجنوبية أم الشمالية؟». ضحك أخي ساخراً، وقال لا هي عاصمة الجنوبية ولا هي عاصمة الشمالية، فيتكونك هم ثوار فيتنام الشمالية ضد الأمريكان. عندها اكتشفت نفسي كم أنني صغير لا أميز بين العاصمة والثوار..»
• هل هناك مؤشرات تشير إلى أهمية دون كيشوت في هذه الفترة؟
•• هناك مواضيع تنتهي مع انتهاء المرحلة وتسمى مواضيع مرحلية، وهناك مواضيع تنتهي مع انتهاء العرض، وهناك مواضيع تحمل أفكاراً خالدة تستمر مع الوجود الإنساني.
دون كيشوت ابن كل لحظة زمانية ومكانية، يحمل فكراً إنسانياً خالداً في أخلاقياته، لذلك نحن بحاجة إليه في المنزل والعمل والحرب والسلم، وهو محرض أحلامنا، وعصى لضرب الفاسدين والمرتشين والخونة والأشرار، يقول في العرض: هذا العالم خب ولا بد من إصلاحه، فالدونكيشوتيون ينبهوننا إلى الأخطار القادمة وكأنهم بوصلتنا إلى الحياة تجاه الشر، وبكلمة مختصرة هم ملح الحياة.
• أنت تطرح في كل عمل لك قضايا إنسانية عالقة، تجرد الشخصية من البيئة وتجعلها شخصية كونية وبنفس الوقت تصرّ على أن الشخصية تعيش معنا مثل أوديب ودون كيشوت وأنشودة أنغولا..؟
•• أولاً السلام ليس بالبندقية فقط رغم أن البندقية لها دور في الدفاع عن القضايا العادلة، ولكن ليس بالسلاح وحده تحل هذه القضايا، هناك أساليب أخرى مثلاً: حرر غاندي القارة الهندية من دون سلاح، وبالمقابل واجه يوسف العظمة الفرنسيين في معركة ميسلون ويقدر عددهم بالكاد مئات الثوار تجاه جيش فرنسي جرار معد بأحدث الأسلحة والطائرات آنذاك ودافع العظمة عن شرف الأمة.
الفلسطينيون دافعوا وما زالوا عن أرضهم ضد الصهاينة، وكان السلاح الإيمان بالقضية سلاحهم الوحيد، أقصد أن التلاحم العالمي تجاه قضية فلسطين، فقد خرج عشرات الألوف من البشر في كل دول العالم تضامناً مع الشعب الفلسطيني ليس لأنهم فلسطينيون بل لأنهم دون كيشوتيون يريدون الحق.
دون كيشوت موجود في كل إنسان وكذلك جنود الوالي وجباة الضرائب، فكيف نختار؟
• تعتمد في عروضك على اللغة البصرية دون أن تهمل اللغة المنطوقة، وكأنك تعيد المسرح إلى منطقه الفني؟
•• اللغة ليست في الكلام رغم أنني لا أنفي الكلام، فالإضاءة والموسيقى والديكور والماكياج والأزياء كلها إشارات في العرض، وتداخل هذه اللغات مع بعضها يخلق لدى المتفرج لغة واحدة هي لغة العرض عن طريق الصورة.
الأصوات والمؤثرات والصمت كانت موجودة منذ خلق الكون، أصوات الانفجارات الكونية والعواصف والرياح، فأصبح الصمت لغة الوجود.
• تستخدم منذ زمن بعيد تقنية خيال الظل، وأصبحت الآن تقنية أسياسية في بنية العرض لماذا هذا الاستخدام؟
•• أقول لي الشرف أنني أول من استخدمت تقنية خيال الظل في العروض منذ 1988 مع عرض السيمفونية الهادئة، ثم استخدمتها في عروض الأطفال لتطوير خيال الطفل، ونلت جائزة أفضل تقنية لخيال الظل في مهرجان القاهرة التجريبي.
ولخلق كل نوعية من خيال الظل له معنى خاص، فمثلاً دولسينا حبيبة دون كيشوت موجودة في خياله، وعلي أن أجسد خياله لأنها غير موجودة في الواقع، فاستخدمت شاشة خيال الظل وهي تقف وراءها وكأنها شبه واقعية، وفي الوقت نفسه نراها في أحلام وأفكار دون كيشوت، أي إنسان يحلم، فالحالم، والمحلوم شخصان موجودان، لكن التواجد الحقيقي أجسد على الشاشة، ونحن في هذه الحالة بحاجة إلى الخيال والتخييل لنرى هذه الفتاة الجميلة بمواصفات مثالية رسمها دون كيشوت في ذهنه، وفي النهاية تتلاقح هذه الخيالات وتصبح حقيقة.
إذاً دون كيشوت لم يكن يهلوس، بل كان ينشد الحقيقة من خلال هلوساته.
• وجدنا دون كيشوت في مشهد المبارزة يشبه السيد المسيح، فهو يحارب المجتمع بأخلاقه، كيف ذلك؟
•• السيد المسيح هو دون كيشوت كونه يعرف نهايته ورغم ذلك كان ينشر أفكاره حتى أوصلته هذه الأفكار إلى الصلب.
• الأم من حيث لا تدري كانت سبباً في هزيمة دون كيشوت، هل هناك أم في العالم تسبب الهزيمة لابنها؟
•• أي أم في العالم تريد أن يبقى ابنها في أحضانها حتى لو كبر الابن وأصبح عملاقاً مثل أم غوركي، إن كان ذلك بوعي أم من دون وعي، وكذلك في أم بريشت المؤدجة، ورغم أدلجة الأم تبقى هي أم لا تريد الأذى لابنها.
وقد أظهرت الأم من خلال حواراتها في العرض ومن خلال تجاربها في الحياة أن الرجال الخيرين يضطهدون ويصلون إلى نهايات تراجيدية، فقد رأت في حياتها الأبطال والرموز الإنسانية تنتهي إلى تراجيديا، لذلك كانت تمنع ابنها من إصلاح المجتمع، لكن إيمان دون كيشوت من خلال قراءته اللامنتاهية كانت أعمق من حنان أمه، وأصبح كطفل صغير يعاندها ويصرّ على اللعب، حتى لو كنا نظن أنه يلعب أمام منزله كطفل صغير بأفكار كبيرة، أقصد دون كيشوت عملاق كبير بقلب طفل حنون، عندما قال السيد المسيح: دعوا الأطفال يقتربون مني، لم يكن المقصود الأطفال الصغار، بل الأنقياء، ودون كيشوت هو عملاق نقي كان يريد أن يقدم الحلم للبشرية فقط.
• لكن الأم ساهمت في قتل ابنها؟
•• لا أحد يريد تشويه أو قتل ابنه في الحياة، لكن هي فعلت ذلك من أجل عودة الابن إلى عقله دون أن تدرك أن دون كيشوت لا يستطيع العيش إلا مع الأنقياء، كما السمكة لا تستطيع العيش إلا في الماء.
أدخلت العملاق ليبارز دون كيشوت لاستمراريته، أكسير الحياة هو روح دون كيشوت لأنه كان ينتظر ساحراً أو عملاقاً ما ليصارعه حتى لو عرف سلفاً أنه سينهزم في المبارزة، فالخسارة الجسدية/ المادية هي انتصار روحاني لدون كيشوت، ومن خلاله يتكاثر الدونكيشوتيون في العالم، مثلما نزرع حبة قمح تعطي سنبلة، كذلك دون كيشوت نزرع هذه الروح في البشرية، بكلمة مختصرة العملاق ضروري جداً في العرض لنشر أفكار دون كيشوت.