ففي ظني أن الرواية والقصةَ ما كان لهما أن يولدا لولا المؤثرات الأدبية الأوربية ؛ لولا الترجمة عامةً , والاتصال المباشر بالغرب من قبلِ بعض المبدعين العرب , مّمن استطاعوا السفَرَ إلى دول أوربا وتعلم لغاتها , وقراءة أدبها .
لقد نقلت حركة الترجمة العربية – وبجهود فرديةٍ على الأغلب – منذ بداية القرن الماضي روائع الأدب العالمي الكلاسيكي , وأمهات الكتب الفكرية والفلسفيّة , فبدأ قارئنا يقرأ – ضمن ما يقرأ عمالقةَ الأدبين الفرنسي والانكليزي من أمثال «هوغو وموليير وجان جاك روسو , وبلزاك، وموباسان , وبرنارد شو , وولتر سكوت , وديكنز , وسومرست موم , وأوسكار وايلد» .
ثم تدفقت ترجماتُ عمالقة السرد الروس من أمثال دوستويفيسكي , وتولستوي , وبوشكين , وغوغول , وتورغينيف ,و تشيخوف , وشولوخوف , وغوركي .
وترجمت أعمال مهمة لغوته وسيرفانتس وشكسبير عن لغات وسيطة , ثم عن الألمانية والإسبانية , ثُّمَ اشتدت حركة الترجمة إلى العربية ,
فظهرت بعض دور النشرُ المتخصصة بنقل أدبٍ معينٍ أو مذهب أدبيٍّ معين مثل دار» رادوغا» و»مير» في روسيا , «والآداب « و» الحياة « في بيروت , فقرأنا الكسي تولستوي وبوريس باسترناك وجنكيز إيتماتوف وراسبوتين وبلاتونوف وبلغاكوف وجان بول سارتر وكامو , وسيمون دي بوفارو كورلينكو وكافكا وسواهم .
لقد قرأ المبدعُ العربي إذاً أعمال هؤلاء العباقرة , وغيرهم فإذا به يبدأ بخلق جنسين أدبيين ماعرفهما أدبه من قبل – اللهمَّ إلا بذوراً تراثية هنا وهناك – أقصد الرواية والقصة القصيرة والفضل هنا للمترجم الذي ننسى غالباً اسمه وقد نتذكر اسم المؤلف .
والحقيقة أن فضل المترجمين الروّاد , أولئك الذين كانوا أدباء وشعراء في لغتهم الأم لم يقف عند ما ذكرنا فقط , بل وضَعَ لغةً جميلةً سليمةً بينَ أيدي القراء , وأسهم في تبسيط لغتنا وتقريبها من اليومي والمعيش , ولعلَّ من أصدق الأمثلة على ما أقول ترجمات د . سامي دروبي لأعمال دوستويفسكي , وترجمات عبد الغفار مكاوي وبشير السباعي عن الأدب الروسي , وترجمات صيّاح الجهيّم عن الفرنسية وترجمات حسب الشيخ جعفر من الشعر الروسي وأحمد الصاوي محمد عن الفرنسية وغيرهم , وعوضاً عن أن تتطور حركة الترجمة لدينا في هذا المجال تحديداً وتعزز إنجازات السابقين , وتبني عليها بدأنا نقرأ عشرات الترجمات التي تصدى لها أشخاصٌ لايعرفونَ لغتهم الأمّ جيداً ؛ ربما كان بعضهم يتقنُ لغة النص الأصليّة ,
لكنه ينبري للترجمة ظاناً أن ذلك يكفي , وهو من قبلُ لم يكتب في حياته ِ نصاً أدبياً أو خاطرة أو رسالةً ذاتَ سويّة أدبيةٍ عالية , وفي ظلِّ اندفاعِ القراء نحو الأعمال المترجمة ولاسيما الروايات والقصص التي نلاحظ أنها مرغوبة من أجيال القراء الشباب أكثر من الأعمال الإبداعية المكتوبة أصلاً بالعربية , يفسدُ هؤلاء المترجمون لغة القارئ , ويخّربون ذائقته , وقد يتعدى الأمر ذلك إلى إيهام الكثير من أصحاب المواهب والإمكانات الضعيفة ؛
أن اللغة التي بين أيديهم هي لغة الرواية الحقة , ولغة القصة الصافية , فيتصدونَ لفعلِ الكتابة الإبداعية وجعبتهم فارغة إلا من الركاكةِ والضعف , وأنتم ولاشك تقرؤون هذه الأيام نصوصاً لكتاب عرب , فتشعرون فوراً أن الكاتب يستخدم لغة مترجمٍ رديئة وليس لغة مبدع ....
وكي لا يظل كلامي نظرياً ينقصه الدليل أو الوثيقة سأقدم بضعة أمثلة في صياغات المترجمين نائياً بنفسي عن أخطاء الكثيرين منهم اللغوية «نحواً وإملاءً وقواعد على العموم»
وهي أمثلة عشوائية وغير مقصودة , وكان من الممكن أن أقدم سواها لولا أنني قرأتُ الكتب التي سأشير إليها تباعاً خلال الشهر الماضي , فكانت أمثلتها هي الأقرب إلى ذاكرتي .
نقرأ في الصفحة الأولى ؛ الأسطر الأولى من رواية « اللؤلؤة « لجون شتاينبك الحائز على جائزة نوبل عام 1962 والصادرة عن دار حوران عام 1999 :
« استيقظ كينو في آخر موجات الليل . لا تزالُ النجوم تشّع, والنهار كان قد رسَمَ حزمة شاحبة فقط من الضياء على أسفل السماء , من الشرق , صاحت الديوك لبعض الوقت , وأخذت الخنازير تجرّب في تقليب الأغصان وقضم الأخشاب , في محاولةٍ منها للعثور على أي نوع من أنواع المرعى . وكان هناك سرب من الطيور الصغيرة تثرثر وهي تتمادى فاردةً أجنحتها في عباب السماء .. كانت عينا جوانا يقظتين أيضاً , اللتان لم يتذكر كينو أنه رآهما مغمضتين أبداً «
لن تخفى على قارئ متوسط المعرفة للغته العربيّة ؛
العثرات الكثيرة التي ارتكبها المترجم في خمسة السطور السابقة ومنها : استخدام مفردة النهار , وكان الأفضل أن يستخدم « الفجر « واستعمال « أسفل السماء « والعرب لا تستخدم هذه الصياغة , ولكنها تقول «الأفق « , واستخدامه فعل تتمادى دون تعدية , ثم انظروا إلى الجملة الأخيرة ؛ أما كان بإمكان المترجم أن يصوغها بصورةٍ أصح وأجمل بتقديم اسم الموصول فتصبح الجملة « كانت عينا جوانا , اللتان لم يتذكر أنه رآهما مغمضتين أبداً , يقظتين « هذه الرواية تقع في « 105 صفحات « ويمكن للقارئ أن يجد في كل صفحة منها ما يزيد عن المشكلات التي ذكرتها في مقطع من الصفحة الأولى .
لننتقل الآن إلى مجموعة قصصيّة عنوانها « القبلة « صادرة عن دار» أزمنة « الأردنيّة عام 2004 , لمترجمٍ يكتب الرواية وقد حقق حضوراً جيداً في ذلك المجال .
نقرأٌ القصة الأولى « في الحديقة « لـِ ديلان توماس , وسأقتطع منها مجموعة من السطور دون تسلسل :
« كانت الحديقة المظلمة مصدرَ خوفٍ للصبي أكثر من أي شيء آخر . صحيح أن لها رهبتها في ضوء لون الشفق , لكنها وقت أن تُعتم في الأعلى والأسفل , وتبدأ الأشجار بالتّحدث مع بعضها بعضاً ؛ تتحول الحديقةُ إلى شيءٍ من المفزع التفكير فيه .... وفي المقابل من الجدار ثمّةَ سقيفة الحديقة , بيت الصراصير حيث يحتفظ بمجموعتِهِ من الحصى الغريبة وبطاقات صورهِ الشخصية
يمكث هناك جالساً طوالَ وقت طلوع الشمس .... لقد امتلك صندوق الثياب هذا سحراً ....
ذات مرّة قام الصبي بفتح القفل الصدئ بسكين جيبه ... لكنّه , وإثر غياب آخر إشعاعات الشمس بعيداً خلف أكداس المداخن الأكثر ارتفاعاً , كان بوسعِهِ سماع الأصوات كذا .. كذا «
في هذه السطور التي أخذتها من الصفحة الأولى من القصة يمكن أن نعد للمترجم أكثر من عشر عثرات في الصياغة , وفي اختيار المفردات غير المناسبة لواقع الحال , وسبب ذلك التسّرع ومحاولة الترجمة حرفيّاً دون مراعاةِ خصوصية العربية التي يفترض أن يعرفها أكثر من غيره لأنه روائي وقاص .
من هذه العثرات قولهُ : “ في ضوء لون الشفق “ وكان يكفي أن يقول “ في ضوء الشفق “ حتى ولو استخدمَ المؤلف مفردة “ لون “ في الأصل .
وقوله : “ لكنها وقت أن تُعتم في الأعلى والأسفل “ وكان بإمكانهِ لو تمهل قليلاً وتخيّر عباراتهِ جيداً أن يعبر عن صورة الحديقة لحظة سدول الظلام بشكلٍ أجمل وأسلم .
وقوله : “ يمكث هناك جالساً طوال وقت طلوع الشمس “ , أما كان من الممكن أن يقول مثلاً :
“ يجلس هناك طيلة الشروق “ أو سوى ذلك , بحيث يعبّر عن الفكرة نفسها بإيجاز ودون ترجمة حرفيّة . وقوله: “ قام بفتح القفل الصدئ بسكين جيبه” فهل هناك سكاكين لغير جيبه أيضاً ؟ وقوله : “ بعيداً خلف أكداس المداخن الأكثر ارتفاعاً .. “ .
كيف يمكن أن يستخدم مفردة “ أكداس “ هنا ؟ المداخن تنتصبُ على مرأىً من الطفل كثيفةً أو كثيرة ومرتفعةً .... ولكن ليست مكدّسة ..... لو كانت مرميةً بعضها فوق بعض في العراءِ أوفي مستودعٍ ما لقلنا مُكدسةً ...... ثم الأكثر ارتفاعاً من ماذا ؟ ؛
وقوله : “ لقد امتلك صندوق الثياب هذا سحراً “ ؛ تعبير امتلك الصندوق سحراً أو ما شابه , تعبير غير عربي , وكان يمكن للمترجم لو تريث قليلاً أن يجد تعبيراً ألصق باللغة العربية ...
ولو انتقلنا إلى رواية “ الجيل الخامس “ للروائي باولو كويلهو الصادرة عن مركز الإنماء الحضاري 2008 , لأدهشتنا كُثرة الأخطاء اللغوية والأسلوبية التي لاتخلو منها صفحة ففي الجزء الأوّل من الرواية نقرأ “ كان الحديث هو السبيل الوحيد لتجنّب الشعور بالخوف فعند أيّة لحظة قد يفتح الجنود باب الإسطبل حيث اختبأاْ , فيكتشفون وجودهم “ص 11 , لقد نسي المترجم أنه يتحدث عن رجلين اثنين ومازالَ في الجملة نفسها ؛ وكان عليه أن يقول “ فيكتشفون وجودهما “ . ويكتب في الصفحة 18 : “ سوف ينتهي هذا الحال , فإذا كانت قد أغوت ( أخاب ) فلن تنجَحَ في إقناع الناس (إيزابيل ) لكن إيزابيل تكن مثل بقيّة النساء “ , وظني لو أن المترجم نفسه قد أعادَ قراءة هذا المقطع قبل أن يدفع الرواية إلى دار النشر لصوبَّهُ بالصورة التالية : “ سوف تنتهي هذه الحال ؛ فإذا كانت ( إيزابيل ) قد أغوت ( أخاب ) , فإنها لن تنجح في إقناع الناس , لكنّها لم تكن مثل بقية النساء “ وأعودُ فأُأكد أنك لن تجد صفحةً واحدة في الرواية المذكورة تزهو على صاحباتها بأنها تخلو من الأخطاء ...
وكي لا يقتصر حديثنا على إصدارات دور نشر خاصة , فلا بأس مثلاً من الوقوف قليلاً على مجموعةٍ قصصيّة أصدرتها سلسلةُ عالم المعرفة الكويتيّة “ العدد 376- فبراير 2009 “ في جزأين للكاتب الأمريكي المعروف بول بولز , وطمعاً في جعل الكلام مكثفاً ومختصراً نتناول قصة واحدة حملت عنوان “ الضبع “ وإذا كنا هنا لن نلتقي أخطاء لغوية وإملائية كثيرة لوجود من يراجع هذه السلسلة جيداً من الجانب اللغوي ,لكننا سنجد أحياناً استخداماً ضعيفاً للغة , وركاكة أحياناً ؛ لنقرأ مثلاً هذا المقطع من القصة المذكورة : “ في تلكَ اللحظة تسلق ضبعٌ إلى أعلى الجبل , ورأى اللقلق وهو يقف في الماء , فقال له : “ هل جئتَ من مسافةٍ بعيدة ؟ “ , لم يكن اللقلق قد رأى ضبعاً من قبل ففكّر : “ هذه إذن هي هيئة الضبع “ . ووقف ينظرُ إلى الضبع فقد قيلَ له إنه إذا رشَّ الضبع بعضاً من بولهِ على أحد فإن هذا الشخص عليه أن يمضي وراء الضبع إلى مكانٍ يريدُهُ له الضبع “ ص 98 .
لقد كرّرَ المترجم استخدام كلمة “ الضبع “ ستّ مَرّات في أربعة أسطر , وكأنه يجهل تماماً أنَّ في اللغة العربية ضمائر , كان من شأنها لو استُخْدمت للدلالة على “ الضبع “ أن تخلص النصّ من تكرارٍ قبيحٍ , وأن تحقق شيئاً من التكثيف والإيجاز .
وبعدَ قليلٍ من هذا المقطع يصفُ المترجمُ طيران اللقلق فيقول : “ وبسط جناحيه ورفرف بعيداً عن البركة . وعند حافتها جَرَى بسرعة إلى الأمام وارتفع في الهواء “ ص99 , أتساءَل هنا عن صحّة استخدام كلمة “ جرى “ هل كان اللقلق يجري فعلاً , أم أراد المترجم أن يقول “ طارَ بسرعة إلى الأمام “ لأنه سبق وقال في المقطع نفسه “ رفرفَ “ بعيداً ..... “
في المقطع نفسه يسألُ اللقلقُ الضبعَ قائلاً : “ أنتَ إذن من يطلقون عليه الغول ؟ “ وكان من الأفضل أن يقول : “ أنت إذاً من يسمونه الغول “ . ثُمَّ يصف المترجمُ الضبع قائلاً : كانت عيناهُ ضيقتين ومعقوفتين “ فهل يمكن أن نصف عيني الضبع أو سواه بقولنا “ عيناهُ معقوفتان “ ؟!
إلى غير ذلك من الحالات التي نرى اللغةَ لا تسعف المترجمَ فيها , لضعفِ امتلاكِهِ لها أساساً.